معركة عمرها 150 عاما
هنا تنتابك الحيرة.. في أى اتجاه تتحرك.. في بداية شارع المبتديان على بعد أمتار من ميدان السيدة زينب.. أنظر خلفى تجذبنى لوحة عتيقة مدون عليها مدرسة السنية الثانوية بنات تأسست عام 1873م.. ياه منذ 150 عاما بالتمام والكمال.. الدهشة ممن يحملن لوحة المدرسة جمع غفير من النساء تتوسطهم الأميرة جشم آفت هانم زوجه الخديوى إسماعيل الثالثة.. ترسل ابتسامتها الرقيقه إلى زوجها الذى يقف بجلال يرقب المشهد وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة الرضا لزوجته الأميرة التى استجابت لحلمه بانشاء أول مدرسة حكومية لتعليم الفتيات..
حول الأميرة جشم تقف ملايين النساء.. وجوه كثيرة لا تكاد تميز ملامحهن يتقدمهن رموز من المجتمع المصري في الثقافة والعلوم وأصحاب مناصب رفيعة في الدولة المصرية منذ عشرات السنين، أعرف بعضهن.
الكاتبة والشاعرة ملك حفني ناصف «باحثة البادية»، وفيكتوريا رياض عوض، ورائدة التعليم في مصر نبوية موسى أول فتاة تحصل على البكالوريا في مصر، وهدي شعراوي، وفايدة كامل، وسيزا نبراوي، ووزيرة التأمينات والشئون الاجتماعية السابقة عائشة راتب أول من طالبت بتولي المرأة منصب وكيل النائب العام.
والكاتبة أمينة السعيد أول امرأة تحترف الصحافة وتدرجت في المناصب حتى وصلت إلى رئاسة تحرير مجلة حواء، ومفيدة عبدالرحمن أشهر محامية في مصر وانصاف سري، وفاطمة فهمي، ودولت الصدر، ونازلي الحكيم، وزينب عبده، والمذيعة اللامعة صفية المهندس رئيس الإذاعة سابقا، وسامية صادق رئيس التليفزيون سابقا.
تأتى الأصوات من بعيد تنشد سيمفونية حكاية أول مدرسة حكومية مجانية لتعليم الفتيات في مصر والاولى من نوعها في العالم الإسلامي.. لم يكن الأمر بسيطا بل معارك دارت فصولها منذ عشرات السنين قبل إنشاء المدرسة.. هنا كانت ساحة حرب كبرى..
حكاية إنشاء أول مدرسة للبنات
فى جهة يقف حاكم يؤمن بأهمية العلم والتعليم لنهضة مصر، وزوجة تبرعت من مالها الخاص لتحقيق هذا الحلم، ومفكرون يرفعون شعلة التنوير قادمين بها من باريس بلاد النور والتقدم.. وعلى الجانب الأخر مجتمع يشيع فيه الجهل والتخلف ويعتبر التعليم مضيعة للرجال فما بالك بالنساء.
ومهد لإنشاء المدرسة صدور كتاب المرشد الأمين للبنات والبنين سنة 1872 للشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الذي نادى بضرورة تعليم البنات.. فأستغل الخديوى اسماعيل صدور الكتاب لتحقيق حلمه وحلم محمد على فأوعز الى زوجته بشراء سراي قديمة بالسيوفية، وجددت بناءها، لتكون أول مدرسة، حكومية لتعليم الفتيات.
وفتحت أبوابها للطالبات في ربيع سنة 1873 م متزامنة مع أجواء الأفراح المقامة لزواج الأمراء الثلاثة توفيق وحسين وحسن، أبناء (إسماعيل) الكبار.. هكذا كانوا يحتفلون بزواج أولادهم.. ومن الغريب أن يتكرر الأمر بعد ذلك بسنوات عندما قررت الأميرة فاطمة إسماعيل إحدى بنات الخديوى إسماعيل أيضا بوقف مساحة من أراضيها وقدرها 6 أفدنة لإقامة مبنى للجامعة الأهلية -جامعة القاهرة- بالإضافة إلى تحملها كافة تكاليف البناء التى قدرت بنحو 26 ألف جنيه وقتها وتبرعن بمجوهراتها لتدبير المبلغ.
وكان الأسم الأول للمدرسة “السيوفية” نسبة إلى منطقة السيوفية المقام بها المدرسة ثم تغير اسمها بعد ذلك إلى “المدرسة السنية في إشارة إلى لقب السنية أى العليا الرفيعة التى تشير إلى أملاك وإدارات الحكم المملوكة للخديوى اسماعيل.
كان التعليم في مدرسة السنية مدته خمس سنوات يتمثل في تدريس القراءة والكتابة والحساب والرسم والجغرافيا وأشغال الإبرة والطبخ والغسيل والتدبير المنزلي، بالإضافة إلي تعلم اللغتين التركية والفرنسية، وتلقين القرآن الكريم للطالبات المسلمات.
المفاجأة كانت في البداية أن من تقدم للدراسة في المدرسة هن بنات أرباب القصور ولم يتقدم الأهالي ببناتهن لشدة تسلط الأوهام الموروثة وعندما لم تجد الأميرة عدد التلميذات اللازم للدراسة، أضطرت إلى أخذ فتيات الجواري من بيتها وبيوت أميرات الأسرة المالكة وأمرائها، وإدخالهن فيها.. وبدأت الدراسة فيها بخمس تلميذات، وزاد الإقبال حتى وصل العدد إلي 286 تلميذة بين 7-11 سنة خلال 6 شهور.
هنا أدرك بعض الاهالى من خارج القصور من كل ملة وطائفة وأولاد عرب، ونوبيون، وأقباط، ويهود، وشرقيون، أهميه تعليم بناتهن وتزاحموا بهن وسنهن من 7 إلى 12 سنة، وعندما امتلأت المدرسة بـ200 فتاة انشأت الادراة أماكن لمائة أخرى بشرط أن تكون دراستهن خارجية لعدم وجود اماكن فى القسم الداخلى.
وبعد النجاح الذى جاء بعد صعوبة أصدر الخديوى إسماعيل أمره بإنشاء مدرسة أخرى وأسست في جهة القربية وامتلئت بالطالبات، لا سيما بنات الوجهاء وموظفي الحكومة ومستخدميها، واكتظت بهن المقاعد، وزادت الطالبات، مئات مئات عن المطلوب، فدل الإقبال على المدرستين، دلالة قاطعة، على سرعة تطور المصري إلى مقتضيات العصر.
وكان التعليم، في كلتا المدرستين -ومدته خمس سنوات- مثله في مدارس أوروبا التي من نوعهما، أي القراءة العربية، والكتابة، والحساب، والرسم، والجغرافيا، والموسيقى، وأشغال الإبرة، والطبخ، والغسيل، والتدبير المنزلي، زيادة على تعلم التركية والفرنسية، وتلقين القرآن للمسلمات.. لكن إقبال بنات الوجهاء والكبراء ومزاحمتهن بنات الشعب الذى أقام لهم الخديوى المدرستين قرر تشييد مدرسة ثالثة لهم.
تدهور المدرسة
ولأن الرياح تأتى بما لا تشتهى السفن مر الخديوى إسماعيل بضائقة مالية بعد عزله ونفيه عام 1879، تدهورت المدرسة بسبب غياب التمويل حتى كادت أن تتحول إلى ملجأ لليتيمات، واعتبرها ديوان المدارس مدرسة خيرية، إلى أن أحيلت إلى الأوقاف عام 1885، ثم عادت للمعارف سنة 1889، وفي عام 1901 تم إدخال تعليم دبلوم المعلمات وتخرجت أول دفعة عام 1903 طالبتان فقط هما “ملك حفني ناصف، وفيكتوريا رياض عوض” وتخرجت آخر دفعة لها في قسم مدرسة المعلمات عام 1932، ثم تحولت بعدها إلى نظامي الكفاءة والبكالوريا.
وكانت نبوية موسي بنت محافظة الشرقية أول فتاة تحصل على شهادة البكالوريا عام 1907 من مدرسة السنية ولم تحصل أي فتاة أخرى على هذه الشهادة إلا بعد 21 عاما وعندما التحقت بالمدرسة لم تجد مساندة من عائلتها.. ووقتها كان ينظر لتعليم البنات على أنه" قلة أدب" وكان إيمانها بالتعليم هو الحلم والسند.
وكان يوم حصول نبوية موسى على شهادة البكالوريا حدثا فريدا فقد خصصت وزارة المعارف قاعة خاصة بالمدرسة السنية لتمتحن فيها بمفردها.. وتجمع الناس هنا في انتظار خروج هذه الفتاة التي تحدت الجميع وتقدمت لنيل هذه الشهادة وحصلت عليها بتفوق.. ولم تكن نبوية موسى متمردة بمفردها فقد خرجت من المدرسة أول مظاهرة نسائية عام 1919.
وللرحلة بقية
yousrielsaid@yahoo.com.