في جنينة ناميش وشارع المبتديان!
هنا لا يمر عابر إلا وسكن فيها واستقر، ومن أجبر على العبور، لا يغادرها إلا وقد سكنت فيه واستقرت داخله.. هنا التاريخ كائن حى يخرج من صفحات الزمن ليتكلم معك ويحاورك.. الجغرافيا اقترنت بالتاريخ في عقد زواج أبدى، ومهما حاول البعض تغيير معالمها ظلت أنفاس التاريخ حارة في أحشائها وحاضرة ومتحدثة بكل اللغات..
في حي السيدة زينب تشعر أن كتاب التاريخ يقلب صفحاته كلما خطوت في طرقاتها.. ينشد حكاياته على لسان أبطاله المرافقين لك في كل مكان.. هنا جنينة ناميش وما أدراك ما جنينة ناميش.. تقتحمنى صورة أديبنا الرائع يوسف السباعى في الحال وبعض قصصه التى دارت هنا.. أنفاس السباعى تلاحقنى..
هنا صاحب قصص أشهر الأفلام الرومانسية مثل رد قلبي، جفت الدموع، ليل له آخر، أقوى من الزمن، والعمر لحظة.. إني راحلة، وبين الأطلال ونحن لا نزرع الشوك وأرض النفاق والسقا مات’’ إلخ. أطلق عليه نجيب محفوظ لقب جبرتي العصر لأنه سجل بكتاباته الأدبية وهو أحد ضباط الجيش المصرى أحداث ثورة 23 يوليو منذ قيامها وحتى بشائر النصر في حرب أكتوبر المجيدة..
هنا في جنينة ناميش أخذ السباعى الاسم في مجموعته القصصية "من أبو الريش إلى جنينة ناميش".. هنا مرتع أبطاله وصباه وشاهدا على شبابه، وها هو ذا شارع السد يحمل اسم يوسف السباعي.. السد سابقا.
السباعى وجنينة ناميش
وسبب آخر يزج بـ جنينة ناميش في قصص السباعى، فبينما نجد أن التجول في جنينة ناميش هو الدافع للكتابة لكن الترجل مستمر إلى السد البراني، والمنيرة، والسيدة زينب، وزين العابدين.. نعم المكان هنا هو البطل والتاريخ هو الذاكرة والراوى يتنفس في جنينة ناميش وحيث إبداع يوسف السباعي يتجلى في هذه المجموعة القصصية.
ورغم عدم انحيازى الفكرى لإبداعات السباعى القصصية لإننى من مجاذيب يحيى حقى صاحب قنديل أم هاشم ومن حرافيش نجيب محفوظ بطل الجمالية والحسين، لكن زمالتى للسباعى في بلاط صاحبة الجلالة تجعلنى بمشاعر القبيلة أتعاطف معه ولو قليلا.. لا أعرف أين تأخذنى قدماى وأنا سارح مع السباعى وحكاياته التى تسابق وتزاحم خطواتى حتى وجدتنى أمام فرشة أحد بائعى الجرائد لتخطفنى مجلة المصور ومجلة الهلال على الفرشة..
ياه يا أستاذ السباعى لماذا تصر على جذبى إلى شارع المبتديان الآن؟ نعم كان السباعى رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال عام 1971 وقبلها مجلس إدارة مؤسسة روز اليوسف عام 1961، ورأس تحرير مجلة آخر ساعة عام 1967 وفي عام 1977 تم اختياره نقيبًا للصحفيين..
ذهب مع الرئيس أنور السادات إلى إسرائيل في نوفمبر عام 1977 عندما كان رئيسا لتحرير الأهرام وبعد نحو ثلاثة أشهر دفع ثمن ذهابه إلى القدس باغتياله في 17 فبراير 1978 في قبرص وهو يرأس وفد مصر كوزير للثقافة وأمين منظمة التضامن الأفرو أسيوى من بعض الرافضين للسلام مع الكيان الصهيونى، واغتيل بعده الرئيس السادات لنفس السبب وأسباب أخرى.
كالفراشة تجذبنى أضواء بلاط صاحبة الجلالة.. هل صدفة أم جزء من التاريخ أن تكون في مربع واحد على بعد أمتار من مسجد السيدة زينب القديم أعرق المؤسسات الصحفية وأقدمها في جانب مثل دار الهلال وروز اليوسف ودار الشعب وأحدثها مثل المصرى اليوم.. إلخ على جانب آخر.. أعترف أنني فقدت القدرة على إدارة بوصلة التحرك..
حكاية شارع المبتديان
قدماى تجرنى إلى الأحداث التى تجذبنى إلى صفحاتها.. منوم أو مسير.. لا أعرف.. تأخذنى الخطوات إليها وتسير نحوها.. التراب هنا ليس ترابا.. الحجارة هنا ليست طوبا ودبشا.. الشوارع هنا ليست طرقا وممرات.. هى ساحات للأحداث والتاريخ حى.. يصرخ ويغنى ويصلى.. هنا مرت أجيال تركت بصماتها ووقعت بقوة في صفحات التاريخ ومدينة لبعض العصور وأفعال بعض الأشخاص.
فجأة أجدنى في شارع المبتديان.. وما أدراك ما شارع المبتديان والمبانى الساكنة فيه والشوارع المتقاطعة معه التى يضخ التاريخ دماءه بين شراينها ويربط بالحكايات بين أوردتها المتجاورة، هو الشارع الذى تغير اسمه مرات عديدة منها عام 1950 إلى شارع الشيخ يوسف، وفي عام 1951 سمي بشارع محمد عز العرب. لكن الشارع أصر على الأحتفاظ باسمه الأول المبتديان..
والذى حصل عليه في يناير عام 1868 حين تم نقل مدرسة المبتديان الابتدائية بالعباسية إلى هذا الشارع وتحديدًا في قصر عثمان بك البرديسي أحد مماليك مراد بك، والمبتديان كلمة تركية تعني الابتدائية.. وأطلقت على أول مدرسة ابتدائية في مصر أسسها محمد علي باشا ضمن مشروعه لتحديث التعليم، وكانت المدرسة الوحيدة من نوعها لعدة سنوات، وفيها تخرج أهم أعلام النهضة المصرية في القرن التاسع عشر، وظلت المدرسة موجودة في مكانها حتى أغلقها الخديو عباس عام 1848 وليتم نقلها هنا عام 1868.
والشارع بدأت حكايته قبل ذلك حين أسسه الناصر محمد بن قلاوون، أحد أبرز سلاطين دولة المماليك، وأقام على جانبيه القصور لكن الشارع تعرض للإهمال والتدهور بعد تحوله إلى ساحة لحروب المماليك ومؤامراتهم، لكن الدراما المأسوية كانت مع مجيء الحملة الفرنسية عندما تحول الشارع لساحة لتنفيذ حكم الإعدام في الثوار المصريين المقاومين لاحتلالها..
هنا علق سليمان الحلبي وزملائه على المشانق بعد محاكمتهم في قتل الجنرال كليبر قائد الحملة الفرنسية بعد نابليون بونابرت.. هنا شنق الحلبى والثوار أمام أهالي القاهرة وتحديدا عند ناصية شارع المبتديان الحالى مع شارع المنيرة حيث حديقة دار العلوم الحالية.
لكن ما حكاية الاسم الثانى الشيخ على يوسف والثالث محمد عز العرب اللذان أطلقا على شارع المبتديان ورفضهما الناس؟
ومازالت الرحلة مستمرة!
yousrielsaid@yahoo.com