إمبراطورية التلاوة.. لا تغيب عنها الشمس!
هى إمبراطورية تمتد حدودها لتشمل كل أركان المعمورة بانتشار المنتمين لها والرافعين للوائها في كل مكان.. هى إمبراطورية تلاوة قرآن الكريم التى اتسعت بعد رسوخ أركانها وذيوع شهرتها لتجوب الآفاق ، وحينها ردد الكثيرون المقولة الشهير: نزل القرآن الكريم فى مكة والمدينة ليتلى في مصر وينتشر منها إلى أرجاء العالم على حناجر سماوية ملائكية مصرية..
تتوالد الأصوات وتتكاثر لكن لكل منها بريقها الذى يخطف القلوب ويسحر العقول وينتقل بالأرواح إلى عنان السماء.. والسؤال متى ولدت هذه الإمبراطورية فى العصر الحديث؟!
مؤسس دولة التلاوة
كانت البداية في أوائل القرن العشرين كما تقول بعض الروايات على أوتار حنجرة الشيخ أحمد ندا والتى كانت حدثًا فارقًا وتأسيسًا فعليًا لمدرسة تلاوة القرآن المصرية الحديثة.. عذوبة الصوت كانت وسيلته في التسلل إلى القلوب، وطريقته الخاصة في التلاوة جذبت الآذان وتسللت إلى القلوب من جهة، ومن جهة ثانية حفر لنفسه مكانة في المجتمع بين كبار القوم وأثريائهم لم تكن موجودة من قبل..
حتى أصبح في عصره أغلى قارىء للقرآن في مصر، وقفز أجره في سنوات معدودات من خمسة جنيهات إلى 100 جنيه، وحقق بذلك ثروة كبيرة كما يذكر الكاتب الصحفى أيمن الحكيم فى كتابه «مزامير قرآن: العظماء السبعة لدولة التلاوة»..
فانتقل بها من حارته في العباسية إلى قصر اشتراه لنفسه مثل كبار القوم ولم يسكن فيه فحسب، بل حول جناحا فيه إلى ملتق للندوات واللقاءت التى يشارك فيها رجال الحُكم والسياسة والأدب، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل اشترى عربة حنطور تجرها ستة خيول، الأمر الذي أغضب الخديوي وقتها لأنها تشبه حناطير الخديوى، فأجبره على أن يكتفي في عربته بحصانين فقط!!
لكن الخطأ الأكبر أو قل الخطيئة الكبرى في حق هذه الإمبراطورية أن الشيخ أحمد ندا رفض تسجيل قرآن بصوته، وكانت حجته: إن الأسطوانة التي ستحمل صوته قارئا لكتاب الله لا تليق بجلاله من جهة، ومن ناحية ثانية أن الاسطوانة معرضة للإلقاء في أماكن لا تتفق مع قدسية قرآن.
وتزامنا معه أو بعده فى مطلع القرن العشرين شهدت سماء التلاوة سطوع أسماء أخرى مثل الشيخ يوسف المنيلاوي الذي عاصر الشيخ أحمد ندا، بل كان أكبر منه عمرًا، وكان صديقًا للشيخ سلامة حجازي الرائد المسرحي الشهير، وكان يتمتع بصوتٍ متفرد وصفه الشيخ الكاتب والصحفي عبدالعزيز البشري،، بأنه كان شجيًا وفيه حزنٌ وشجن..
وهناك أيضًا الشيخ محمد القهاوي كما يقول أيمن الحكيم في كتابه، كان المقرئ المفضل للزعيم سعد زغلول، وكان المثل الأعلى لتلميذه الشيخ محمد رفعت، الذي وصفه بأنه أجمل الأصوات وأرقها وأعذبها. وانطلقت وتعددت الممالك ودول التلاوة فى هذه الإمبراطورية التى اتخذت من القاهرة عاصمة لها على يد الآلاف من الأسماء اللامعة في عالم التلاوة..
مثل منصور الشامي الدمنهوري، محمد عمران، حمدي الزامل، كامل يوسف البهتيمي، راغب مصطفى غلوش، طه الفشني، محمد الفيومي، عبدالفتاح الشعشاعي، أبو العينين شعيشع، عبدالعظيم زاهر، أحمد الرزيقي.. وغيرهم. وتلألأت أسماء كثيرة وكل يوم تولد نجوم ولكل منها مذاق مختلف يشكل معالم مملكته المتفرده، وكل منه يقيم بحنجرته وحده مملكة ودولة..
من فى عالم التلاوة يمكن أن يتجاوز هؤلاء العظماء، محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد ومحمود خليل الحصري ومحمد صديق المنشاوي ومحمود علي البنا ومحمد محمود الطبلاوي.
سفراء مملكة التلاوة
وأصبح ملائكة إمبراطورية التلاوة بهذا الزخم والتميز فتحولوا إلى خير سفراء لمصر في جميع أنحاء العالم، ليتحول قدومهم إلى أعياد واحتفالات أسطورية لا تقام حتى للملوك والزعماء لأن الأمر ببساطة أن من تقيمه هى قلوب وأرواح ووجدان الشعوب محاطا بعناية السماء، فكانت بحق إحدى القوى الناعمة المصرية التى تشكل إحدى المرتكزات الحضارية.
وحين تنبهت الدولة المصرية في الستينات إلى هذا التأثير الكبير أسست إذاعة القرآن الكريم وبدأت البث 25 مارس 1964 ونحتفل هذه الأيام بمرور 59 عاما على تأسيسها كأول إذاعة دينية متخصصة فى العالمين العربى والإسلامى، وجاء قرار إنشائها كما يقول الكاتب فتحى محمود لمواجهة الهجوم على الهوية الإسلامية والعربية، عندما اكتشف بعض علماء الأزهر نسخًا محرفة من القرآن الكريم فى بعض الدول الإفريقية..
فظهرت فكرة تسجيل القرآن الكريم كاملا، وعرض الدكتور عبد القادر حاتم وزير الإعلام والإرشاد القومى وقتها الموقف على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذى وافق على الفور على إنشاء إذاعة لبث المصحف المرتل الذى سجله المجلس الأعلى للشئون الإسلامية للشيخ محمود خليل الحصرى..
ووجه بأن تبث على موجتين قصيرة ومتوسطة ليغطى إرسالها الوطن العربى بالكامل وجزءا من قارة إفريقيا، وشارك فيها بعد ذلك كبار المقرئين، كما كانت أول من أذاع المصحف المعلم الذى قدم فكرته وطريقته الشيخ محمود خليل الحصرى..
وظلت إذاعة قرآن الكريم لعقود طويلة البوابة الملكية أمام دولة التلاوة فى مصر للعبور إلى العالم الخارجى، وما أشبه اليوم بالبارحة، كثرت التحديات وأضيفت اليها محاولات سحب البساط من امبراطورية التلاوة المصرية لذلك انطلقت ومنذ شهور قناة فضائية جديدة تحمل إسم: مصر قرآن كريم، لتعرض تلاوات قرآن الكريم لأشهر الأصوات المصرية التى تربت على أيديها أجيال كاملة فى العالم الإسلامى..
وهذه خطوه تستدعى التحية خاصة وأن القناة الجديدة بوابة لاكتشاف أصوات جديدة فى قراءة قرآن والإنشاد، وستخلو من أى خريطة برامجية ليكون البث بالكامل خاصا بآيات الذكر الحكيم فقط. إن هذه الخطوة تمثل جزءا مهما من عملية استعادة الهوية المصرية والحفاظ عليها، ودعما كبيرا لدولة التلاوة ودورها الريادى على رأس القوة الناعمة المصرية..
إذاعة الكنوز المصرية في عالم التلاوة ونوادر التسجيلات التى تعتبر رصيدا كبيرا من قوة مصر وريادتها ومكانتها المتقدمة، التى ينبغى أن نهتم باستثمارها بشكل صحيح، فهى جزء من تراثنا وهويتنا وقوتنا الناعمة، وعلينا أيضا مواجهة عالم الانترنت والأعيب البعض بدعم مقرئين غير مصريين لدى الرأى العام لفرض ثقافة معينة مازالت مستمرة عبر مواقع الانترنت والسوشيال ميديا، بزيادة عدد المتابعين عن طريق برامج معينة لا تمثل حقيقة الوضع!
yousrielsaid@yahoo.com