الأمهات في زمن السوشيال ميديا!
"جذور التربية مُرَّةً لكن ثمارها حلوة" هكذا قال أرسطو.. ترى لو كان هذا الفيلسوف اليوناني يعيش بيننا فماذا كان سيقول عما آل إليه حال التربية في مجتمعنا، وكيف سيرى أمهات اليوم اللاتي يعيش أغلبهن في الواقع الافتراض ولا يبرحن مواقع السوشيال ميديا.
فإذا كان أرسطو قد وصف تربية الأبناء بـ المهمة المريرة فى عصر خلا من فساد التكنولوجيا ومغرياتها ومن فضاء إلكتروني يخلق عالمًا موازيًا يسلب عقول الكبار.. فما بأجيال اليوم الذين تُركوا وحدهم في مواجهة غول التكنولوجيا، يتشكل فيه وجدانهم وتبني قناعاتهم وأفكارهم ومعتقداتهم..
وما أدراك ما ذلك العالم الموازي الذي لا تحصى أبوابه ولا تُعد مداخله ومغرياته وملذاته، فبضغطة زر واحدة تنفتح لك عوالم من الإبهار والجذب فيها الصالح والطالح والنافع والضار؟!
وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وبقدر عظم دور الأم تعظم منزلتها؛ فقد تعبت في الحمل لقوله تعالى: "حمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ" ثم في الولادة: "حمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا"، ثم في الرضاعة: "حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا" ثم في التربية والتنشئة وغرس القيم والأخلاق الفاضلة..
هكذا كانت أمهات الزمن الجميل؛ كنّ قدوة ومَدْرَسةً حتى قال فيهن الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق
التربية في زمن السوشيال ميديا
والسؤال: ماذا عن أمهات اليوم؛ أمهات السوشيال ميديا.. هل انجرفن في تيار الفضاء الإلكتروني وانشغلن عن تربية الأبناء مكتفيات بإطعامهن وكسوتهن وتشاغلن عن تربيتهن بالمعنى الأعمق للتربية؛ حتى خرجت أجيال تخجل من سماع ما يتفوهون به في الشارع ولمَ لا وقد تركوا لفضاء إلكتروني بحوره غريقة فصاروا فريسة سهلة لصيادين خبثاء يصطادونهم تارة بألعاب إلكترونية مدمرة وتارة بشائعات ومعلومات مضللة.
ما أصعب التربية في زمن السوشيال ميديا وما أصعب ما يعانيه الآباء والأمهات من مرارة ومعاناة فى تربية جيل يكاد يغرق في الإنترنت التي هى حضارة عصرهم وهم بلا شك أبناء زمانهم؛ الأمرالذي يضاعف صعوبات التربية الحقة لتخريج أجيال سوية قادرة على خوض غمار الحياة وتحدياتها وتحولاتها فائقة التطور التي ألقت ولا تزال بأعباء جسام على الوالدين ثم على المؤسسات المعنية بصناعة العقل والوجدان والأخلاق.
كان الله في أمهات اليوم الواعيات بدورهن الحقيقي فى غرس القيم الدينية والمجتمعية السوية، وتكريس التقاليد والأعراف القيمة لتهذيب سلوكيات وربما شطحات الأبناء، لينشأوا قادرين على مواجهة أعباء الحياة واختباراتها، متسلحين بوعي رشيد مستنير وحس إيماني عميق ويقين راسخ متين وهوية لا تقدر رياح الشائعات ولا صعوبات الحياة على هزها.
إن تربية الأبناء تستلزم هنا أمهات وآباء من طراز خاص، يعرفون كيف يحمون فلذات أكبادهن من الغرق في موبقات التكنولوجيا؛ ما بين ألعاب إلكترونية يحرض بعضها على العنف وبعضها على الرذيله وبعضها يسلب الهوية ويجافي روحنا الأخلاقية.. حتى لا يقعوا فريسة لمحتوى قد يكون ضد الدين أو الوطن أو التقاليد والعرف.
المنع هنا ليس حلًا؛ فكل ممنوع مرغوب ومن ثم فلا بديل عن الإقناع بحوار هاديء مطمئن ومراقبة مستمرة ودقيقة يلزمها إلمام بلغة العصر ومعرفة وإحاطة لمعرفة كيف يتعامل الأبناء مع تلك المواقع.. والأهم هو القدوة الحسنة؛ فليس مقبولًا أن ينغمس الأمهات والآباء في ذلك الفضاء الإلكتروني ثم يطالبون أبناءهم بالامتناع عنه.."أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ".
اليوم نحن إزاء إشكالية كبرى، آباء وأمهات لا يتركون هواتفهم من أيديهم وينشغلون بها عن أقرب الناس إليهم يتواصلون مع البعيد ويغفلون حق القريب ثم يريدون أن ينشأ أبناؤهم صالحين واعين لما يحيط بهم، فكيف يريدون أن يشيدوا بناء تربويًا راسخا في أبنائهم وهم يجهلون أبسط مقومات هذا البناء؟!