ما قبل السقوط
فى الثالث والعشرين من يناير 2011م وأثناء الاحتفال بعيد الشرطة، سألت أحد قادة الأمن الكبار عن توقعاته لما سيحدث فى الخامس والعشرين؛ أى بعد يومين! قال الرجل وبكل ثقة: سنحتفل بعيد الشرطة مرة ثانية.. قبلها بأيام كانت وسائل الإعلام القومية تتبنى وجهة نظر وحيدة قوامها أن مصر ليست تونس، وأن مصر لن تقوم بها ثورة، ولن يسقط الحكم فيها.
وقبل ذلك بفترة كان نظام الحكم فى تونس قد سقط بثورة الياسمين، كما أطلق عليها شباب تونس، ولم يكن نظام مبارك أكثر وعيا فى التعاطى مع تحركات الشباب كما هو الحال فى تونس.
بدا واضحا أن نظام مبارك ونظام بن على ونظام على عبد الله صالح فى اليمن، كلها قد تكلست وتجمدت عند نقطة غاية فى الخطورة، وبدا واضحا أيضًا أن تلك الأنظمة ليست قادرة على الحركة بديناميكية لتلافى السقوط.
عندما يصبح الشارع فى وادٍ والنظام فى وادٍ، وعندما تصبح هموم الناس غير اهتمامات النظام، وعندما لا يكون لدى النظام تصورات حقيقية عن معاناة الجماهير، ساعتها قل على الدنيا السلام.
فى الأنظمة الديمقراطية مهما قيل عن النموذج الديمقراطى تتحرك الأنظمة وفق أجندة الشارع، ويعبر الحاكم عن آمال وطموحات الشعب، ويكتسب النظام شرعيته من ارتباطه بما يجول فى خاطر المواطن.
وفى تلك الأنظمة تجرى عملية تداول السلطة بشكل سلس يعمق فكرة الاستقرار، فلا تتعرض البلاد إلى هزات عنيفة كتلك التى تحدثها الثورات نتيجة السعى للتداول عبر العنف الثورى.. ويعد الصندوق قياسا طبيعيا للشارع وما يرغب فيه، وهو وسيلة آمنة لحماية البلاد والعباد من استخدام العنف أو الخروج إلى الشوارع وتعطيل الحياة لاستبدال نظام بآخر.
الديمقراطية وتداول السلطة
وفى ظل نظام الفرد، تغيب الحقيقة وتصور البطانة الواقع بشكل مغاير لما يجرى على الأرض، وهو ما يخلق هوة سحيقة بين الحاكم وواقع بلاده، وهو الأمر الذى يؤدى فى النهاية إلى اللجوء إلى طرق غير آمنة للتغيير.
ومن دروس الواقع الذى جرى على ظهر الكرة الأرضية، فإن الأنظمة التى وصلت إلى فكرة التداول السلمى للسلطة وصلت إلى مناطق أمان دفعت تلك البلاد لتحقيق غاياتها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
أما الدول التى لا تزال تصر على فكرة الحاكم الفرد فإنها دوما فى مهب الريح، ولا يمكنها تحقيق غاياتها الشعبية بسبب فكرة الوصاية والهوة السحيقة بين ما يرغب فيه الشعب وما يحققه الحاكم على أرض الواقع.
إن المسافة بين معاناة الجماهير وحكوماتها هى التى تصنع القلاقل وعدم الاستقرار، ومن ثَم يظل الشعب غير راض عما يجرى، وتظل الحكومات فى غيها، لأنها لا تتعاطى مع الواقع الحقيقى للجماهير.
وأتصور أنه لو تحرك الرئيس مبارك، عليه رحمة الله، بشكل يتوافق مع حركة الجماهير فى الخامس والعشرين من يناير 2011 م لما حدث ما حدث، وكنا قد جنبنا بلادنا كل ما جرى.. هرم نظام مبارك.. تكلس وتجمدت حركته، فكانت حركة الثوار أسرع منه فجرى ما جرى، ودفعت البلاد ثمن ذلك غاليا، بسبب رداءة الحكم وعدم قدرته على فهم حقائق التاريخ.
ولو تصورنا لبعض الوقت، ولو بالخيال، أن مبارك أقال حبيب العادلى وزير الداخلية، وأصدر قرارا بحل مجلس الشعب وتشكيل حكومة جديدة، لرفعت صوره فى الشوارع، ولكنه لم يفهم ولم يعِ ما يجرى من حوله، وظل على وهم، حتى وجد نفسه خلف القضبان هو ومعظم أطراف نظامه.
إن دراسة التاريخ تعلمنا كيف سارت أمم من قبلنا، ولسنا بحاجة إلى اختراع العجلة، فكل الأنظمة التى دارت حول شخص واحد أو حزب واحد راحت ببلادها إلى مناطق ظلام لم تنته بسهولة، أما الدول التى اعتمدت نموذجا ديمقراطيا وصلت إلى بر الأمان، ولا تزال تقدم لنا دروسا يوما بعد يوم.
ويكمن السر في حركة الشارع ومساحات غضبه أو رضاه، ومدى الاستجابات وسرعتها من قِبَل النظام دون مواربة أو مخادعة أو محاولة لكسب الوقت، ففى النهاية لن يكون إلا ما يريده الشارع.