الأيدي الرخوة
عدت إلى مصر بعد غياب طويل، ويحدوني الأمل في أن يكون ما يصلنا بالخارج عن أوضاع البلد تشوبه مبالغات كما اعتدنا سنوات طويلة.. في مطار القاهرة لم يكن التفتيش كما تردد في الشهرين الماضيين، ولم يزد الأمر عن أسئلة حول وجود أجهزة عليها جمارك، ثم السؤال تحديدا عن "آيفونات وذهب ودولارات"..
ولما وجدوا الإجابات صريحة تماما لم يفتحوا أي حقيبة بل استفسروا عن أغراض موجودة في إحدى الحقائب ظاهرة أمامهم على الشاشة، وبعد توضيحي طبيعة الأغراض انصرفت دون تعطيل أو تعسف بل كانت الابتسامة سمة المفتشين رغم الإرهاق البادي عليهم.
استبشرت خيرا وتمنيت أن تكون جل أمور البلد يسيرة مثلما وجدت المطار، لكن كانت مشاعري مضطربة متفاوتة، خصوصا خلال أيام العزل الاختياري خشية أن أكون أخذت فيروس ما خلال السفر وربما أنقله لمن ألتقيه، لذا كنت أدبر احتياجاتي خلال العزل عن طريق الهاتف والتسوق الإلكتروني، ووجدت من أجمل وأيسر الأمور في البلد التسوق أونلاين عبر تطبيقات عدة توفر الوقت والجهد ولديها طائفة متنوعة من الاختيارات بأسعار أقل من المحال المعتادة، فضلا عن التعامل الجيد مع العملاء من قبل مقدمي الخدمة.
انتهى العزل الطوعي بسلام، واضطررت لمراجعة السنترال لمشكلة في الإنترنت، صحيح استغرق الأمر وقتا، لكن كان التعامل هادئا صبورا، ومحاولة تذليل العقبات والإجابة على الاستفسارات، والجميع يرتدي "يونيفورم" مميز لشركة "WE"، أما خارج السنترال فامتلأت حديقة الحي بالكافيهات والمطاعم والاستراحات وألعاب الأطفال لقضاء أوقات هانئة في مكان نظيف يسر الخاطر.
تكرر حسن التعامل وتذليل العقبات واختصار وقت الخدمة برحابة صدر في بنك حكومي كبير، ورغم أن اليوم التالي كان عطلة نهاية الأسبوع إلا أن البطاقة المنتهية أنجزت خلال العطلة ووصلتني إلى البيت حتى لا تتعطل أموري المالية، خصوصا أن جهات عدة تشترط الدفع بالفيزا ومنها خدمات المرور.
في الماضي كانت الغالبية تخشى مراجعة أي موقع تابع لخدمات وزارة الداخلية نتيجة التعسف وسوء المعاملة إلا من رحم ربي، لكن هذه المرة وجدت الأمر على العكس تماما، حيث ذهبت إلى المرور لتجديد رخصة القيادة، ووجدت أمامي رئيس الوحدة برتبة عقيد، بشوش مبتسم يتحدث بأدب جم واحترام كبير مع الجميع..
أيدي الحكومة وأجهزتها الرقابية رخوة
سألته عن المطلوب للتجديد، فقال: "ورقة واحدة من مركز آخر، وبقية الأمور تتم لدينا في الوحدة، وعند شرائي الورقة المطلوبة أعود إليه شخصيا لإكمال الإجراءات"، والحقيقة أنه اهتم بالأمر تماما دون سابق معرفة، وتولى تذليل العراقيل التي يفتعلها صغار الموظفين..
رافضا التعسف في التعامل مع المواطنين لأي سبب، وكان بين الفينة والأخرى يترك مكتبه متفقدا الشبابيك ويسأل المراجعين إن كانوا يريدون شيئا، وبعد انتهاء تجديد الرخصة بفضله، رفض حتى كلمة شكر، مؤكدا أن واجبه تذليل العقبات لجميع المراجعين.
الحقيقة لم تكن تلك المفاجأة السارة الوحيدة في تعامل رجال الداخلية، إذ تكرر الأمر نفسه في أحد الميادين من بشاشة وحسن تعامل منظم المرور ومبادرته للمساعدة من دون طلب ذلك، وهذا على النقيض من معاملة صغار الموظفين المدنيين.
لا يمكن لأحد إنكار نظافة الشوارع والميادين وانسيابية المرور واتساع الطرق، وهي ثمرة البنية التحتية المريحة التي وفرت كثيرا من الوقت المهدر في أي مشوار كان، لكن في المقابل تبقى السمة الغالبة انفلات الأسعار وغياب تام للرقابة الحكومية، بحيث يبيع كل تاجر أو محل بالأسعار التي يريدها لإدراكه أن الأجهزة الرقابية الحكومية غير موجودة على الأرض وتكتفي بالبيانات والتحذيرات دونما تفعيل حقيقي!.
تنطبق على تقاعس الحكومة وفشلها الذريع، الآية (أم 10: 4) من الكتاب المقدس "اَلْعَامِلُ بِيَدٍ رَخْوَةٍ يَفْتَقِرُ، أَمَّا يَدُ الْمُجْتَهِدِينَ فَتُغْنِي". إذ أعلنت الحكومة خطة للسيطرة على الأسعار المنفلتة محذرة من يمتنع عن وضع الأسعار على المنتجات بعقاب وحزم شديدين، وانتهت مهلة الأسبوعين ولم يستجب أحدًا لتحذيرات الحكومة، لعلم الباعة والتجار أن "أيدي الحكومة وأجهزتها الرقابية رخوة، وما تدلي به مجرد بيانات وتصريحات للاستهلاك الإعلامي لا تجد طريقها للتنفيذ بأي صورة"..
وعليه وضع كل تاجر وبائع لنفسه أسعارًا يزيدها كيفما شاء ويفاجئ بها المشتري، ومن خلال تجربة شخصية في أيام معدودة وجدت أسعار السلع ذاتها تتحرك بشكل يومي وعند الاستفسار عن السبب يكون الرد "هذه أسعارنا ومن لا يريد يشتري من غيرنا"، فضلا عن أن متاجر ومحال متجاورة تبيع السلع ذاتها بأسعار متفاوتة بشكل كبير دون حسيب أو رقيب، لأن "من أمن العقوبة أساء الأدب".