حكومة من مالطا
لا أدرى إلى متى سيستمر نواب الشعب والحكومة منفصلان عن واقع الشارع المصري، وكأن أعضاءهما يعيشان فى مالطا، ولا يشعران بحجم الكساد وانعدام فرص العمل وحالة التردى الحياتية التى يعيشها المصريين، بسبب تخبط التشريعات والقرارات التى يتم تمريرها دون أدنى دراسة لمردودها على الشعب.
فمنذ شهور قليلة، تحركت الحكومة بعد أن بحت أصواتنا وأرسلت لمجلس الشيوخ بمشروع تعديل على قانون البناء رقم 119 لسنة 2008 وشروط البناء الجديدة التى أصدرتها قبل عدة أعوام، بهدف علاج البنود المجحفة التى أوقفت بموجبها حركة البناء في مصر، وألقت بنحو 15 مليون عامل بقطاعى البناء والتشييد إلى طابور العاطلين، وحرمت البلاد من مليارات الجنيهات كانت تشكل رقم ضخم فى دورة رأس المال في السوق المصرى سنويا.
غير أن النواب والحكومة لم يستوعبا بعد حقيقة الأزمة الاقتصادية التى تعيشها البلاد، ولا سيما بعد أن اضطرت الحكومة تحت ضغط التضخم إلى إصدار شهادات بفائدة 25% سحبت بموجبها مايزيد عن الـ 300 مليار جنيه من أموال المصريين، سوف تنعكس بسلب أكبر على دورة رأس المال بالأسواق، وستظهر آثارها فى صورة كساد وضعف أكبر للقوى الشرائية وانعدام لفرص العمل خلال الأسابيع القادمة.
وبدلا من أن يبادر النواب والحكومة فى منح قبلة الحياة للأسواق، ومنح مرونة أكبر فى بنود القانون رقم 119 لسنة 2008 والشروط التعجيزية التى منعت البناء، وفتح الطريق لضخ أموال وفرص عمل من خلال تسهيل عمليات التشييد، قامت الحكومة بإرسال مشروع التعديلات الجديدة لمجلس الشيوخ دون أن تدخل عليها أي تعديلات جوهرية، وانتهت لجنة الإسكان بالمجلس من مناقشتها أيضا دون أن تدخل أى جديد، وباتت الآن على وشك العرض والموافقة عليها من المجلس، وليبقى الوضع على ما هو عليه وعلى المتضرر إلقاء نفسه في البحر.
المحزن أن لا الحكومة ولا النواب قد راعيا الحالة الرثة لملايين العمالة العاطلة، ولا كم الأموال المجمدة فى أرضى البناء منذ سنوات، والتى من الممكن أن تعيد الحياة للسوق المصرى، واكتفيا باختزال التعديلات فقط في مد سريان رخصة البناء إلى 3 سنوات بدلا من عام، في حين أن شروط البناء تمنع المواطن من إصدار تراخيص من الأساس.
اشتراطات جديدة وبنود تعجيزية
الواقع يؤكد أن الرؤية الاقتصادية في تلك التعديلات كانت غائبة على الإطلاق، ولم ترتق لطموحات المواطن الذى تحمل كل تبعات المرحلة بصبر وآن له يستريح، وهو ما يفرض على الحكومة ضرورة إعادة النظر فى التعديلات على القانون والشروط التعجيزية التى تتعارض تماما وثقافة البناء في الأقاليم ولا تصلح للتطبيق سوى في المدن الجديدة.
فلا أدرى كيف لم تتنبه الحكومة، إلى تبسيط البنود التعجيزية لاستخراج تراخيص البناء، والتى تتطلب إجراءات طويلة ومعقدة يصعب على المواطن الوفاء بها ولو بعد سنوات، وفي مقدمتها حتمية تقديم عقد مسجل بالشهر العقارى للأرض المراد البناء عليها، والذى لا غرض منه سوى التعقيد وإرهاق المواطن وتحميل رسوم، أجزم أنه من الممكن أن يتقبلها المصريين برضى دون إرهاقه والاكتفاء بتقديم العقود الابتدائية.
كما لا أدرى كيف لم تدرك الحكومة، أن الشروط التى لم يتم المساس بها في التعديلات المقترحة، لا تتناسب على الإطلاق والواقع الاجتماعى والتخطيطى لمدن وقرى مصر، لاسيما وأنها تشترط عدم البناء سوى على 70% فقط من مساحة الأراضى بدءا من مساحة الـ 175 مترا، أى أن المواطن الذى دفع تحويشة عمره فى قطعة أرض مساحتها 200 متر، لن يتمكن من البناء سوى على ساحة 140 مترا فقط، بل وعلى ألا يزيد ارتفاع المبنى على 4 طوابق فقط فوق الأرضى، حتى وإن زاد عرض الشارع عن الـ 50 مترا.
حيث تقيد شروط البناء الارتفاعات فى ألا تتعدى الـ 10 أمتار "أرضى + دورين " فقط فى الشوارع التى يقل عرضها عن ال 8 أمتار، و13 مترا "أرضى + 3 أدوار" فى الشوارع التى يتراوح عرضها بين 8 و13 مترا، وألا تزيد على "4 أدوار + أرضى" فقط فى الشوارع التى يزيد عرضها عن 12 مترا، وهى قيود تجعل التكلفة الكلية للبناء فى متناول الأثرياء فقط، فى ظل الأسعار الباهظة أصلا لأسعار الأرضى ومواد البناء.
ولعل أغرب ما في تلك القيود التى لم تنتبه لها الحكومة ومجلس الشيوخ لتعديلها، أنها منعت المواطن من استغلال المبنى تجاريا، وتخصيص الطابق الأرضى كجراج وهو لا يمتلك دراجة، ومنعته حتى من الانتفاع بالطابق الأرضى تجاريا ليعود عليه وعلى أسرته بالنفع.
الواقع يقول إن الحكومة والنواب كانا منفصلين تماما عن واقع المواطن والسوق عند إعداد ونظر تلك التعديلات، وإن الصالح العام يفرض عليهما ضرورة الإسراع بسحبها وإعادة دراستها، قبل أن يتم الموافقة عليه وحرمان البسطاء من البناء، ومنع ضخ مليارات الجنيهات إلى السوق المصرى، والإبقاء جبرا على حالة الكساد، ومعها 15 مليون عامل بأسرهم في طابور العاطلين.. وكفى.