أنا وأستاذ الكيمياء ومدبولى
لم يكن مدرس الكيمياء يصاب بالإحباط أبدا، يدخل المعمل ونحن معه، نتراص حول البنش انتظارا لتجربة جديدة من تجاربه التى ندرسها فى فصلنا الدراسى، يمسك الأستاذ بقارورة بها سائل مؤكدا لنا أنه حمض الكبريتيك، وعلى شعلة هادئة يضيف الحمض إلى النحاس منبها علينا أن نلاحظ النتائج.
فى الحقيقة كان أستاذ الكيمياء يضيف الحمض على النحاس ويقوم بعملية التسخين فلا نرى نتائج إلا أبخرة لا تكاد ترى بالعين المجردة، بينما الأستاذ يؤكد لنا أن الناتج كبريتات نحاس وهيدروجين. وتتعدد تجارب الأستاذ، وفى كل مرة لا تكون النتائج كما يخبرنا بعبقريته العظيمة وهو لا ييأس ولا يُحبط، بل يؤكد أن النتائج كما قالها لنا!
كنت قريبا من الأستاذ فسألته على انفراد وبأدب جم: «هى ليه النتائج مش بتطلع زى ما حضرتك بتقول، وليه حضرتك مُصِر على أنها بتطلع واحنا اللى مش فاهمين؟!».
وكانت إجابة الأستاذ شفافة مع وعدى بأن ما سيقوله سر دفين لا يجب أن يخرج لأحد من الطلبة، قال الأستاذ: «المعمل ليس به أحماض ولا مكونات، وأحاول جاهدا أن أوهمكم بصدق النتائج، فالوزارة لم ترسل لنا المواد المطلوبة، وأنا أستاذ كيمياء لا يليق بى أن أدرس لكم المادة دون تجارب»!
أتذكر وقائع أستاذ الكيمياء كلما أطل علينا أحد من ولاة الأمر فى الحكومة وغيرها وهم يحدثوننا عن الاقتصاد الذى يمر بأعظم مراحله، وأن الإنسان المصرى وصل إلى قمة السعادة والاستقرار، وأنه ليس فى الإمكان أفضل مما هو كائن.
ارتفاع سعر الدولار
ويقول بعضهم إن المؤسسات الدولية تشيد بالحالة الاقتصادية المصرية وتعتبرها نموذجا للنجاح وتحقيق معدلات نمو غير مسبوقة وفى هذا الأمر قد سبقنا الأمم.
وأنا كمواطن أكتوى يوميا فى حياتى بدءا من سعر الحليب وانتهاء بسعر اللحمة التى أجاورها مرة فى الشهر، ومرورا بحصار البطالة وحديث الناس عن ارتفاع سعر الدولار وزملائه من العملات التى عرفت مؤخرا لماذا يسمونها «صعبة»!
المسئولون يصرون على أن الممارسات العملية فى الاقتصاد نتائجها كبريتات نحاس وهيدروجين دون أن يعرفوا أن المواد المخلوطة ليست حمض الكبريتيك ولا فيها نحاس. النتيجة الإجمالية لما نمضى فيه تشابه ما كان يفعله فينا أستاذ الكيمياء، مع أن الاقتصاد ليس كيمياء، الاقتصاد علم يختزل نجاحه فى ثلاث تاءات معروفة التصنيع.. التشغيل.. التصدير.
هل لديكم إضافات أخرى غير تلك التى وصل إليها العالم أجمع؟ إصنع تخلق فرص عمل، وبالإنتاج تصدر، وبالتصدير تكون عوائدك الدولارية كافية ووافية وشافية.
لماذا الإصرار على أن ناتج ممارساتنا الاقتصادية هو ذهب ولكن المواطن لا يرى؟! ولماذا يصر القائمون على الأمر أن يمضوا فى نفس الطريق وفى انتظار نتائج مغايرة لما وصلنا إليه؟!
الدكتور مصطفى مدبولى رئيس الوزراء يرى أن حكومته لا تنام حتى تحافظ على الأسعار، فهل حافظت عليها؟ الأسعار تتحرك بسرعة الصاروخ والمواطن لا يرى كبريتات النحاس، وربما يشم رائحة الهيدروجين فقط دون غيره!
كان أستاذ الكيمياء معذورا لأنه لا يجد مواد فعالة، فيضيف وَهْمًا على وهم، ويطلب منا أن نصدق ما يقول من نتائج، فهل الأستاذ الدكتور مصطفى مدبولى يعرف تفاصيل المعادلة التى يطالبنا بتصديق نتائجها؟!
وهل يملك المسئولون شجاعة أستاذ الكيمياء ليعترف أن الخلطة مغشوشة وأن المواد المستخدمة والطريقة المتبعة ليست إلا وهما أفضى إلى وَهْم، وأن ما نعانيه هو نتيجة طبيعية للإصرار على عدم الاعتراف بما وصلنا إليه؟!
إن المصارحة بما نحن عليه تعيد إلينا الثقة فى أنفسنا، خصوصا أننا حققنا الكثير فى عديد من الملفات إلا الملف الاقتصادى الذى بتنا فيها نموذجا لفشل يدفعنا إلى فشل ومن بعده الطوفان. تصحيح المسار أمر ضرورى وواجب وطنى وملاذ آمن لإعادة العمل على إطلاق الطاقات البشرية والمادية للخروج من أزمة لا أتصور أن أحدا يعرف على وجه اليقين إلى أين تدفعنا، وثمن الخروج منها.