موسم الهجرة.. وفانتازيا اللجوء (1)
إن ظاهرة هجرة أبناء الجنوب من أفارقة وعرب إلى دول الشمال الغني المتقدم سعيا للمال، تستوجب التوقف أمامها، وقرع جرس إنذار؛ فكثير من المهاجرين قد يدفعون حياتهم ثمنا لتحقيق حلم اللجوء، حتى قبل أن تطأ أقدامهم تلك البلدان، ومن يصل منهم إلى أراضي تلك البلدان يمكن أن يصطدم بمجتمعات مغايرة لمجتمع النشأة من حيث العادات والتقاليد وحتى المناخ...
ما يعني أن الطريق ليست معبدة بالورود والرياحين، بل حبلى بالآلام والأحزان والمآسي والمعاناة من العنصرية والاضطهاد، حتى أن الكثير ممن هاجروا ورجعوا إلى أوطانهم، عادوا بخفي حنين، وقتلتهم الغربة كثيرا، ومزقت نفوسهم، وتمنوا لو أنهم لم يتركوا أوطانهم، وعاشوا على الكفاف، بدل من عيشة الضياع وآلام الغربة..
إن بلادنا العربية والأفريقية تشهد مؤخرا تصاعد موجات الهجرة المكثفة واللجوء إلى بلدان الغرب وأمريكا تصورا بأن تلك البلدان هي أرض الأحلام والجنة الموعودة، وهؤلاء المهاجرين أو اللاجئين يتوزعون ما بين من يهربون من الاضطرابات والحروب التي تشهدها بلدانهم، ومن يسعى إلى تحصيل مزيد من العلم، وفئة ثالثة تحلم بالانتقال إلى عالم الرخاء والثروة.
الفئة الأولى يمكن أن نلتمس لهم بعض الأعذار بالرغم أن الهجرة واللجوء للغرب قد يسهم في انفصام عرى التواصل مع بلدانهم الأصلية، والفئة الثانية والمتمثلة في الساعين لتطوير متحصلاتهم العلمية يستحق الدعم والتحفيز، فتحصيل العلم والعودة لإفادة أوطانهم بما اكتسبوه من علم يمكن أن يسهم في تقدمها وهذا أمر يستوجب التقدير والاعتزاز، بينما الفئة الثالثة الحالمة بالجنة الموعودة فستوجب التوقف أمامها ودراسة الدوافع وكشف زيف ما يروج من أن بلاد الغرب وأمريكا هي جنة الله على الأرض ما جعلها أرض الأحلام للكثير من شبابنا العربي بجنسيه.
موسم الهجرة للشمال
دعونا نتفق بداية على أن الغالبية من الشباب العربي يعاني في أوطاننا العربية من الظروف الاقتصادية الصعبة والذي يفاقم منها غياب تكافوء الفرص، ما أدى إلى ندرة فرص العمل التي توفرها مؤسساتنا للشباب على أساس الكفاءة، بل يمكن القول بأن فرص العمل الجيدة يحظى بها المقربون من أركان السلطة دون سواهم، وهذا ما يخلق حالة من الحنق واليأس تؤديان أحيانا إلى السعي للهجرة أملا في تحقيق الثروة والرخاء والمكانة، لكن كثيرا ما يصطدم هؤلاء بالواقع البعيد تماما عما تم الترويج له.
وهذا ما كشفته بعض الأعمال الأدبية مثل رواية "موسم الهجرة للشمال" للمبدع السوداني الراحل الطيب صالح التي جسدت صورة شاب أراد الهجرة من مجتمعه الإفريقي والعربي (المتخلف) والفقير إلى المجتمع الأوروبي (المتقدم) والغني؛ سعيا للعلم أو المال، وما واجهه من أحداث ومواقف بعضها قد يكون مشجعا على الهجرة وبعضها قد يكون منفرا، وكانت نهاية البطل مأساوية.
وتضمنت الرواية بعضا من معاناة المهاجرين، فأورد المؤلف على لسان البطل العربي الافريقي القول: "نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه".
فأغلب الأوربيين يرون في أنفسهم عرقا متميزا عن غيره من الأعراق، وهذا ما يجعلهم يبلورون استعمار بلدانهم لبلدان الشرق الأفريقي والعربي ونهب ثرواته واستغلال أبنائه في الأعمال المتدنية والتي تتطلب قدرات بدنية خاصة كعمال الصناعة والتشييد، فضلا عن إغواء بعض المتميزين من عقولنا نحن الأفارقة والعرب، ما أسهم بدور كبير في نهضة وتنمية وتطور مجتمعاتهم وبلدانهم...
بينما ظلت مجتمعاتنا وبلداننا تعاني من التخلف وفقر التنمية، ما جعلهم يقسمون العالم إلى عوالم متعددة أولهما شمالي متقدم وثالثهما جنوبي متخلف، وأي قارئ للتاريخ سيتيقن بأن دول الشمال المتقدم كانت سببا رئيسيا في تخلف دول الجنوب، وتظل دول الشمال مدينة بتقدمها لدول الجنوب حيث الثروات المنهوبة والأيدي العاملة المسلوبة والعقول المغوية...
ما يعني أن نمو البلدان الغنية (العالم الأول الإمبريالي) قد أدى إلى إفقار وتخلف العالم الثالث وأن قوى الرأسمالية الدولية لا تزال تعيق تقدمه، وأن تخلف العالم الثالث هو عملية بدأها المستعمرون، وذلك مرجعه حاجة البلدان الصناعية للمواد الخام والواردات الغذائية من مناطق هذا العالم الثالث.
وتلك الحالة عبر عنها الروائي السوداني على لسان بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" حينما قال:
"يا للغرابة، يا للسخرية، الإنسان لمجرد أنه خلق عند خط الاستواء، بعض المجانين يعتبرونه عبدًا وبعضهم يعتبرونه إلهًا، أين الاعتدال؟ أين الاستواء؟"
وللحديث بقية
