الهروب من الحياة.. ولقاء الإمام الحسين!
تطاردنى الحياة بكل أحداثها، وكلما حاولت الهروب من أحداثها اصطدم بها، وكانها الموت المحقق (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ)، أحيانا أخلق عالما يبعد عن الواقع، عالما ينسى لهيب الأسعار، عالما بعيدا عن همومك اليومية، عالما أحاول رسم ملامحه، رسم الشخصيات التى التقيها، شخصيات مرحة سعيدة، الضحكات والابتسام تملأ وجوهها، شخصيات محبة عاشقة للحياة..
أحاول أن أرسم شوارع ليس فيها سوى الأشجار والخضرة وأصوات العصافير والحسون، ولا أرى فيها سوى حاملات الجرة بملابسهن الريفية الجميلة النبيلة، نعم ملابس الفلاحات نبيلة، فيها رائحة طين النيل، وعبق حضارة عمرها بعمق الزمن فى التاريخ، يذهب خيالى بعيدا عن العالم المشتعل..
أحمل خيالى وأحاول البعد عن الأرض برائحة الدم والبارود، بعيدا عن رائحة الخيانات وانعدام الوفاء، أشعر بأننى ارتفع وأتجاوز السحب الملبدة، ارتفع وارتفع، ووسط السحب تطاردنى الحياة أيضا، أجد من يخرج من بين السحب يسألنى إلى أين تذهب؟ كيف تتجاهل ما نحن فيه من عبث وضجر وغم وقرف؟
عالم جديد
إلى أين تذهب وتتركنا وكل شىء يرتفع ثمنه إلا قيمة الإنسان؟ إلى أين تهرب من حياتنا؟ لا أرد عليه، أتجاوزه، أسرع بالهرب منه، أسرع بخطوتى إلى الارتفاع أكثر وأكثر وأكثر، لا أريد هؤلاء، لا أريد عبث الإنسان، الذى يخرب كل شىء، يسىء إلى كل شىء، لا أطيق هؤلاء، لا أريد سماع أصواتهم، لا أريد رؤية وجوههم، لا أريد رؤية نفس الشوارع التى شهدت الخيانات، ولا أريد سماع كذب الأوغاد، لا أريد رؤية كتائب الظلم، ولا مواكب الكذب..
أرتفع أكثر وأكثر وأكثر لقد أزعجنى من رأيته وسألنى إلى أين أنت ذاهب؟ أعود محاولا رسم عالمى الجديد، عالم أطل منه لكى أرى كل خير، نهر الخير، وأشجار السعادة، وبساتين الرضا، ومياه تشبه نهر النيل، نهر النيل الذى يسرى مياهه في دمى، أحاول رسم عالم أطل منه لكى أرى كيف كان النبلاء يعيشون؟ كيف كانت صداقة حقه بين البشر بنى الإنسان؟
أرى كيف كان سليمان يتحاور مع الهدهد؟ كيف كان يوسف الجميل فى سجنه راضيا واثقا فى حكمة السماء؟ أرى كيف عبث اليهود بكل معجزات موسى؟ كيف حارب يحيى مؤسسة الفساد ودفع حياته ثمنا لحكمته ونبل مقصده؟ أرى كيف كلم المسيح وهو طفل اليهود؟ أرى كيف صبر المسيح على اليهود وكذبوه بالرغم من معجزاته؟
هالة نور
أحاول اختراق السحب الكثيفة، وتعوقنى السحب، ولكن استمر فى الصعود والارتفاع عن الأرض، ووسط هذا كله، أرى أمامى هالة من نور، نعم هالة من النور، لا أعرف من صاحبها، أذكر أن هناك من صور المسيح عيسى وحوله هالة من نور، وكان شعره وكأنه مغسولا بماء الذهب، وأذكر أن الشيعة صوروا الإمام على بن أبى طالب أيضا بهالات حوله، ياترى هل ممكن أن يكون أحدهما؟! هل ممكن أن التقى السيد المسيح أو الإمام على؟ لا أصدق.. كلاهما نور في قلبى، المسيح والإمام على كلاهما نور في عقلى، أحاول الاقتراب منه، أحاول بحذر شديد.
اقتربت، ورفعت يدى، أريد السؤال، قلبى يكاد يتوقف، لا أعرف ماذا أنا فيه؟ أهو خيال كما كنت أرسم عالما لى، أم إنه حقيقة.. أم أننى تجاوزت الحياة وأصبحت في عالم البرزخ؟ في حيرة من نفسى، وهل لو أننى في البرزخ سيكون لى قلب وعقل؟
قطع صمتى وحيرتى صوت قوى كله مشاعر وأحاسيس طيبة نبيلة، سألت: أنا فى حضرة من؟ هل أنا مازلت على قيد الحياة أم في عالم البرزخ؟ أنا في حضرة من؟ كدت أشعر بالدموع تنزف من عينى، في عالم اعتقدت أننى أرسمه، فإذا بالعالم يدفعنى إلى عالم لا أعرفه، جاء الصوت الرخيم ليسألنى: لماذا أتيت إلى هنا؟
سألت: أنا فى حضرة من؟ قال: أنا من تحبه، وتتمنى رؤيته، وأحيانا تتشبه، وكنت تتمنى أن تكون في مكانه في يوم من الأيام؟ قلت: تمنيت لكثيرين، ولكن كنت دائما أحسد الإمام على بن أبى طالب، فهو الذى تربى في حجر النبى، وتزوج فاطمة بنت النبى، وأبو أحب أحفاد النبى، وعندما اختار من ينام في فراشه ليلة الهجرة اختاره، ومات شهيدا. قال: أنا الحسين بن على حفيد رسول الله!
قلت: أنت الحسين حب رسول الله؟ أنت قائد الثورة على الفساد؟ أنت قدوتى فى الحياة؟ أنت كلمة الحق في مواجهة الباطل، صوت العدل في مواجهة الظلم، صوت النبل في مواجهة الخيانة، أنت الحسين الحبيب وقدوتى وحبى! قال: لماذا اتيت؟ ارجع إلى الأرض وواجه الظلم والخيانة والبؤس الذى يسيطر على العقول والقلوب، تذهب وتذكرنى أينما كنت. قلت: أقسم أننى رأيتك في منامى من حبى لك. قال: اصدقك ولكن عد إلى حيث أتيت.