حكاية مصطفى
مصطفى، حالة مصرية جميلة أفرزتها المحنة الصعبة، شاب في السابعة والثلاثين من عمره، له أسرة وثلاثة أولاد أكبرهم في الصف الثاني الإعدادي، ابتلاه الله سبحانه وتعالى بكف البصر جراء حادث أليم، فلم يستسلم أو يضربه اليأس والقنوط من رحمة ربه، بل فكر ثم عقد العزم على النزول إلى سوق العمل من جديد، بأى فكرة تسمح بها ظروفه الصعبة، مقررا عدم التواكل على الغير في تحمل مسئولياته تجاه أسرته.
وساعدته في هذا زوجته وأم أولاده التى لم تتخل عنه في محنته مثل أي سيدة مصرية أصيلة، بل فكرا سويا فى عمل يجلب الرزق الحلال إلى الأولاد بلا مشقة بالغة على مصطفى، وعقدت العزم على النزول معه يوميا لمعاونته، إلا أنه فضل الاعتماد على نفسه فقط والسعي قاصدا وجه الكريم، وترك زوجته للتفرغ إلى مسئوليات البيت والأولاد.
يجيد مصطفى مهارة الطهي وفنونه، ففكر فى استغلال ذلك، في تجهيز بعض المأكولات الشعبية السريعة مثل ساندوتشات الجبن والمربى والحلاوة واللانشون، وغيرها من الأكلات التى يطلبها المصريون بشكل عاجل كل صباح، بسعر معقول فى المتناول، وغلفها بعناية فائقة وفي حرص بالغ على النظافة والإتقان، مع وضعها فى حقيبة كبيرة مخصصة لحفظ المأكولات منعا لتلفها، خاصة مع بقائه أغلب ساعات اليوم في الشارع.
الرزق الحلال
واختار مصطفى مكانا فى شارع الهرم بالقرب من محل سكنه، وجلب كرسيا ووضع حقيبته أمامه، وأفرد أمامها لافتة صغيرة حملت اسم سندوتشات الكفيف، وهو الاسم الذى انتقاه مصطفى بعناية وتحد للإصابة، ويحمل دلالة على ان العجز ليس عجز الجسد وإنما عجز العقول والكسل عن السعي.
من خلال مقطع الفيديو المصور الذي بثته صفحة أكلة عدنان، رأيت تلك الابتسامة الصافية، ابتسامة الرضا التام بالابتلاء والتعايش معه، واتخاذه نقطة انطلاق إلى الإصرار على طلب الرزق بالعمل والعمل فقط، والسعي إلى تحسين ظروف الحياة وتحمل مسئوليات البيت والأولاد.
يعرف سكان المنطقة والمحال المجاورة مكان جلوس مصطفى، هذا الشاب الخلوق، يشتهون طعامه، يحبون نظافته والتزامه الصارم بها، فضلا عن أدبه الجم ومظهره الراقى، ما يجعل بضاعته مثار اعجاب الجميع، فضلا عن عذوبة لسانه، إذ لا يرد عابر سبيل قصده فى طعام أو مال لوجه الله، يعطيه بنفس سمحة راضية.
أعطانا مصطفى دروسا عدة، أولها عدم الاستسلام واليأس خاصة في أوقات الشدائد والمحن والابتلاءات الشديدة، بل العزم على اجتيازها. وثاني الدروس، هو سعيه بما يملك من مهارات في تنفيذ أى فكرة تجلب الرزق الحلال بلا استنكاف أو استكبار أو تعال.
أما ثالث تلك الدروس، فهو مظنة الخير والحب من الجميع، إذ يتعامل بالبيع والشراء وقد يتعرض جراء فقدان البصر إلى من يحاول استغلال ذلك، إلا أن حسن الظن بالله ثم بالناس جعله يأمن إلى من حوله، ينتظر فيض الكريم على أسرته الصغيرة.
الدرس الرابع، أن السعي في طلب الرزق بالعمل مهما كان، لا ينقص من كرامة أو كبرياء صاحبه شيئا مادام حلالا طيبا، وأن الإصرار على النهوض بعد المحنة يرقى بصاحبه إلى منزلة مجتمعية أعلى مما كان عليه قبلها. تقبل الأزمة والعبور منها سريعا، هو امتحان كبير لا يقدر على النجاح فيه إلا الأشداء، من رضوا وصبروا واحتسبوا، ثم عزموا وتوكلوا، جعلنا الله من الراضين بقضائه وقدره، الحامدين الشاكرين لنعمه، المتواضعين فى طلب رزقه.