رئيس التحرير
عصام كامل

وما أوتيتم من العلم إلا قليلا

مهما حصًل الإنسان من العلم سيظل يجهل الكثير والكثير عن العوالم الكائنة في كوكبه والعوالم المحيطة به بل سيظل جاهلا بمعرفة نفسه وأسرار الله تعالى في مملكته ككيان بشري حتى يلقى ربه وصدق تعالى إذ قال "وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا". هذا وبالرغم من نبوغ الإنسان وتفوقه على أثر ما منحه الله تعالى من نعمة العقل والعلم والبيان ووصوله إلى معرفة أسرار الكثير عن العوالم والكائنات المحيطة به في الأرض والسماء.  إلا أنه سيظل عاجزا أمام معرفة أسرار الله تعالى في ملكه ومملكته وسيظل أيضا عاجزا أمام معرفه نفسه ومملكته تلك المملكة التي إنطوى فيها العالم الأكبر بكل عوالمه من سماوات وأراضين بما فيهن.  

 

فمن المعلوم عند العارفين بالله تعالى أن الله عز وجل بعدما أظهر طلاقة قدرته وعظيم إبداعه في عوالم الكائنات في الأراضين والسموات جمع كل تلك العوالم في مملكة الإنسان فهو الجرم الصغير الذي إنطوى فيه العالم الأكبر. هذا وتدور مملكة الإنسان حول الرباعية الكائنة في الجسد الترابي الذي شرفه الله تعالى بأن عملت فيه يد القدرة الإلهية ولم يبدأ خلقه بكلمة "كُن" كسائر المخلوقات.  

 

وتتمثل هذه الرباعية في النفس وهي جوهر ذات الإنسان ومحل الأنا والكبرياء والغرور والغطرسة والتعالي والغرائز والشهوات وهي المُلهمة من الله تعالى الفجور والتقوى بميزان واحد والقابلة للسمو بصاحبها إلى مراتب الملائكة بل الإرتقاء فوق العالم الملائكي والمقام في حضرة القرب من الله تعالى.  وهي في نفس الوقت القابلة للإنحطاط والتدني تحت منزلة عالم البهائم والأنعام. يقول تعالى “وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا ۝٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ۝٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ۝٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ۝١٠”.  

جهاد النفس

 

ويقول سبحانه وصفا لحال أهل الإنحطاط والتدني الذين غلبت عليهم شقاوتهم بإتباعهم للأنوات والشهوات وتحكم الأهواء والغرائز فيهم. وصفهم الحق عز وجل بقوله تعالى (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا). والنفس البشرية هي محل الأنا والكبرياء والفخر والتجبر والتعالي والصلف والعجب والغرور والطمع والجشع والحقد والحسد والحرص والأنانية والسخط وعدم الرضا وحب الدنيا والاقتتال من أجلها وحب الشهوات.  وبالجملة هي محل كل الآفات والأمراض المهلكة للإنسان والحاجبة له عن معرفته بربه عز وجل والقرب منه سبحانه وتعالى. 

 

ولذا هي كما أخبر عنها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله أنها أعدى عدو للإنسان وأنها أقوى من سبعين شيطانا. ومن هنا ولأجل ذلك جعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله جهاد النفس أعظم الجهاد وسماه بالجهاد الأكبر. لقوله لجمع من الصحابة رضي الله عنهم بعد رجوعه من الجهاد في سبيل الله. قال: (لقد رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.. قالوا وما الجهاد الأكبر يارسول الله؟ قال: جهاد النفس).  

 

هذا ولا سبيل إلى تزكية النفس والوصول إلى طريق الله تعالى المؤدي إلى رضاءه عز وجل ورضوانه إلا بمجاهدتها لقوله تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). هذا وهنا رابط وربط بين معرفة النفس ومعرفة ربها عز وجل وفي الأثر أن "من عرف نفسه فقد عرف ربه ".. 

 

 

أي  من عرف نفسه بالضعف عرف ربه تعالى بالقوة. ومن عرف نفسه بالعجز عرف ربه بالقدرة.  ومن عرف نفسه بالعوز والإحتياج عرف ربه تعالى بالغنى والإستغناء. ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالعلم.  ومن عرف نفسه بالموت والفناء عرف ربه بالديمومية والخلد والبقاء. وهكذا في سائر أوصاف العبد إذ أن صفات الله تعالى تخالف صفات خلقه والله تعالى ليس كمثله شئ وله التنزيه المطلق اللائق به سبحانه وتعالى.. عزيزي القارئ نتوقف هنا وللحديث بقية..

الجريدة الرسمية