حكايات من الشارع
لا يمكن لعلاقة أن تنتهي إلى اللحظة التي سبقت نقطة البداية.. ثمة شيء ولد حين تلامست يدانا.. شئ غير قابل للتلاشي أو الإنكار فهو ساخن كشعاع الشمس حقيقي مثل نورها.. والسؤال: بعد الفراق، لمن يؤول هذا الشيء الذي لا يجوز اقتسامه ويستحيل أن ينفرد به أحدنا دون الآخر؟!.. هذه حكايات من الشارع وعنه، قد كتبتها بحبر وكتبناها بدماء..
شوارع البلدة
كنا نلهو في شوارع البلدة الترابية كجياد جامحة، ونركض بأقدامنا الحافية منذ تشرق الشمس إلى أن تصير قرصا برتقاليا يغوص في الأفق المشوب باللون الرمادي، فنركل الكرة في كل الاتجاهات وكأنها جسد صبية ملبوسة يضربه الشيخ ليخرج منه الجني، فتدمى تلك الأرجل العارية وتتقرح بجروح متناثرة هنا وهناك، بينما نحن لا نبالي، حتى نعود في المساء إلى بيوتنا..
وبعد أن يتلقى كل منا «العلقة» المتينة من أمه، يجلس في حجرها لتداوي جراحه بـ«السكنة» أو ما تعرفونه أنتم بالرماد القابع في أرضية الفرن البلدي، المصنوع من الطوب اللبن و«الملطوس» بالطين.. كانت الأم تضرب بيد وتداوي الجرح بيد.. تدعو على ابنها وتكره من يقول آمين.. تصفع الخد بكفها، أما الخد الآخر فتوشمه بالقبل، ثم تحتض وليدها المعطوب لتعيده جديدا كيوم ولد، حتى إذا أشرقت شمس اليوم التالي، خرج إلى الشارع ليركض كجواد جامح، يركل الكرة والحجارة.. ويضحك.
الشارع لمين؟
في الريف والحارات الشعبية القديمة، الشارع لم يكن مجرد طريق للعبور، كان أقرب لصالون أو نادي اجتماعي يتجمع فيه الناس من أجل تبادل الحكايات والأخبار واللعب أحيانا، فيه يقيمون أفراحهم ومعازيهم. كان الناس يربون عيالهم في الشارع وسط الأهل والجيران.. ولد وبنت.. وكانت الأعراض مصانة.. بيوت أبوابها مفتوحة على الشارع فكان للشارع حرمة، لو دخله غريب سأله أهل المكان عن أصله وفصله ووجهته، فقد كان بالفعل جزءا من البيوت.. ظلت الدنيا جميلة إلى أن انقلبت الآية وأصبحت البيوت جزء من الشارع.
أنت لست أنت مئة بالمئة، لست ذاك الطفل الذي ولد قبل عقود، وراح يلهوا في الشوارع، ففي كل يوم تفقد جزءا منك وتكتسب جزءا من أحدهم، تعطي لكل عابر بعضا منك وتأخذ بعضا منه.. أنت مزيج من ألف ألف عابر مروا من أمامك، ومع ذلك فأنت لست مدينا لأحد منهم بشيء، فكما أخذت منهم أخذوا هم منك.. لقد أصبحت منهم وأصبحوا منك، تجمعوا فيك وتفرقت فيهم.. وإذا أردت يوما أن تستعيد ذاك الطفل الذي كان، عليك أن تجمع شتاته من ألف ألف عابر مروا من أمامك.
إشارة مرور عتيقة
في شارعنا إشارة مرور عتيقة، تلوح بفرح للعابرين عند خطوط المشاة، وتأخذ بأيدي العجائز، ثم أنها تبكي كلما غادر أحدنا الحي الصغير إلى المدينة الكبرى، فهي تعرف أنه لن يعود، وفي المناسبات السعيدة ترقص وتبدل أنوارها بزهو، وحين يموت أحد السكان تبكيه وهي منطفئة..
لا أحد يعرف متى وضعت هذه الإشارة في أرضنا، غير أن الحكايات المتواترة تقول إنها نبتت في ذلك المكان دون تدخل من أحد، فقد رآها بعض الأجداد وهي شتلة صغيرة سرعان ما كبرت.. بل ويقسمون أنها كلما صدمتها سيارة يقودها سائق سكير وخلعها من جذورها، نبتت من جديد لتورق أنوارها الملونة..
والعام الماضي صدر أمر حكومي بإزالتها، لكنها رفضت الانصياع للأوامر، ولم تفلح محاولات الرجل السمين في البدلة الكحلية والنظارة السوداء في إقناعها بتنفيذ القرار الرسمي، ما دفع رجال البلدية لعدم الاعتراف بها ك إشارة مرور شرعية.. ومع ذلك فالجميع هنا سيارات ومارة يحترمونها ويقدسونها كجدة بوشم أزرق على ذقنها، فيتوقفون حين تأمر ويمشون حين تسمح، ويضربون لها الكلاكسات على سبيل التحية.