الجمهورية والقلم وعم طوغان!
علاقة عشق ربطتنى بالجمهورية جعلتني أرفض عروضا للاقتران بغيرها أو حتى بالبعاد.. أغضب منها وتغضب منى، لكن هو غضب الأم من الابن وغضب الابن من الأم.. شاركني في عشقها الكثيرون وربطتنا جميعا علاقة جينية، ولا أعرف هل هذا مرض أم عشق؟!.. في المبنى القديم للجمهورية حيث اللقاء الأول كنت أتحسس خطواتى وأضبط نفسي متلبسا بتحريك قدماى بسرعة من بلاطة إلى أخرى مجاورة حين يباغتنى شعور أو هاجس بأن هذه البلاطة وقف عليها عظماء الجمهورية من طه حسين إلى نعمان عاشور إلى يوسف إدريس إلى مصطفي بهجت بدوي وفتحى غانم وبيرم التونسي ومحمد الفيتورى وكامل الشناوي وموسي صبري.. الخ.
أضحك في سري عندما يرانى زميل ولا يعرف السر قائلا: أنت محتاج ضبط زوايا زى العربية لما تحدف يمين أو يسار. علاقة العشق بالمكان تحولت إلي علاقة عشق بالأشخاص والانتماء لهم بعد الانتماء للمكان حتى أني أزعم إننى كنت آخر المغادرين من المبنى القديم إلى المبنى الجديد.. فيها وقبلها جريدة المساء تفتحت عيونى في بلاط صاحبة الجلالة وبدأت العلاقة بالقلم والكلمة..
كتبت من قبل واصفا هذه العلاقة بقولى: "كلما اختنقت تحول القلم في يدى لجمرة نار.. لا أستطيع الإمساك به من جهة.. ومن جهة ثانية لا أستطيع الفكاك منه.. وهذا هو العذاب بعينه.. أبحث عن الملاذ والمهرب والبقاء في نفس الوقت متشبثا بالحياة حتى ولو كانت وهمية.. احتمى بالذكريات لعلها تنقذني من الجنون ولو مؤقتا، أبحر في الماضى للاتكاء على حديث الأصدقاء ممن فارقوا الحياة.. أحاورهم وهم هناك بعد أن يأست من الحديث مع من يسكنون هنا..
الراحلون هم ملاذ الهاربين أمثالي ولو مؤقتا.. ينتقل العذاب إلي داخلى.. أشعر أن الكلمة فى خطر.. أكاد أكفر بها وبجدواها بعد أن وجدت الحروف أمامى مجرد عيدان حطب جافة يمكن كسرها بسهولة أو اشتعالها بفعل فاعل فى وجهى "بحكة" عود كبريت بسيطة"..
اليوم أحتفي بعم طوغان شيخ رسامي الكاريكاتير في مصر والعالم العربي كما كنت أحب أن أناديه قبل أن يرحل بسنوات.. أفخر أنني تحاورت معه كثيرا واقتربت من عالمه.. ويزداد فخري حين كنت أقول ومازلت إنني زميل لطوغان في جريدة الجمهورية وإننى في جريدة صاحب ترخيصها الزعيم جمال عبد الناصر، وكان مديرها العام الرئيس أنور السادات، ومدرسة صحفية تخرج منها نجوم الصحافة..
حكايات طوغان
حديثى وذكرياتى مع العم طوغان تعنى إنني زاملت قرنا من الإبداع والصحافة والإنسانية والفن والسياسة.. حدثنى عن عشقه للجمهورية مشاركا حبى لها مسترجعا في احدى حكايته قصة عودته مرة أخرى إلي حبه الأول -الجمهورية- بعد إبعاده عنها، يقول طوغان:
في يوم جاءني سعد الدين وهبة وكان أيامها مدير تحرير الجمهورية، وبعد شرب القهوة قال لي: صدر أمر من الرئيس عبد الناصر شخصيا برجوع جميع المفصولين وكلهم عادوا ولم يبق إلا أنت، كان المفصولون معي هم بيرم التونسي وسامي داود ومحمد الفيتوري وإبراهيم عامر ورائد عطار وآخرين! فقلت ل سعد الدين وهبة إن قراري ترك الجمهورية والبعد عن العمل بالصحافة نهائي لا رجعة عنه!
فبصرني بخطورة الموقف وما يسببه عدم امتثالي، فرويت له قصة محل التحف الذى افتتحته أبيع فيه رسومى وأعمالي الفنيه بعد أن طلقت الصحافة أو خلعتنى، فقال: وهو محل التحف ده مش عاوز ترخيص؟! لما تيجي تطلبه مش ح تأخذه! قلت: ح أسرح بعربية ترمس، قال: عسكري البلدية ح يمسكك وسكت ثم قال: إرجع أحسنلك ومتنساش إن المرتب الشهري مضمون!
وعندها ضعفت مقاومتي وعدت إلي الجمهورية، كانت غرفة الرسم قد خلت من اللباد والبهجوري وقطب وفضلون ومديحة رجب وعطيات الدسوقي ومحمد قطب، تسربوا الواحد وراء الآخر، أما فضلوان الفنان العبقري فقد نقلوه إلي مجلة الإذاعة، ورشاد حبيب للحسابات! أما أنا فعشت مهمشا، وبدأت رسومي تنزوي وتفقد حيويتها ولا تجد لنفسها مكانا!
اليانصيب لزيادة التوزيع
وفي محاولة لزيادة التوزيع الذي كان قد بدأ في التراجع لجأوا إلي اليانصيب مثل: "اشتري الجمهورية تكسب سيارة"!، وألف جنيه لقارئ الجمهورية، بالإضافة إلي العدد الكبير من الصفحات الذي يزيد أربع مرات عما تطبعه باقي الصحف!
كلب ماجدة
لم تكن الجمهورية تحظي بتواجد صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة ومدير المؤسسة في غالب الأيام، وكانت حوله مجموعة من قيادات الدار تصحبه في رحلات بأنحاء القطر! وفي يوم جاء إلي الجريدة ودعا إلي اجتماع عام حضرته قيادات وأعضاء أسرة التحرير احتفالا بزيادة التوزيع وكنت بين الحاضرين، ولأن لساني عادة ما ينفلت مني طلبت الكلمة..
وعندما وقفت قلت: إن زيادة التوزيع غير طبيعية وأن الجريدة لا تؤدي الغرض الذي أنشئت من أجله، واليوم منشور فيها علي الصفحة الأولي وعلي ثلاث أعمدة خبر يقول: إن كلب الممثلة ماجدة ضاع! وأريد أن أعرف ما هو المقصود من نشر هذا الخبر وبهذه الطريقة؟ هل هي دعوي للشعب المصري للقيام بالبحث عن كلب ماجدة؟! وقع الحاضرون في صمت وذهول، فوقف صلاح سالم واستشاط بالغضب قائلا: أمال أنت عاوز أيه؟!
وحلا للموقف الذي تكهرب وأصبح علي وشك الانفجار تأبط جلال فيظي الذي كان مديرا لمكتب صلاح ذراعه وغادر به المكان بين ذهول الحاضرين! ذهب صلاح سالم وترك في الجمهورية خمسة رؤساء تحرير هم إبراهيم نوار وإسماعيل الحبروك وكامل الشناوي وموسي صبري والصحفي الفلسطيني ناصر النشاشيبي وسارت الأمور في هدوء!
الجزائر ومرحلة النضال
لكن كيف تحولت الريشة في يد طوغان إلي بندقية في الجزائر.. يقول طوغان: جاء حلمي سلام الذي كان علي علاقة وثيقة بتنظيم الضباط الأحرار قبل الثورة، وكان من أشد المتحمسين للحياة الجديدة وأخذه الحماس إلي الاعتقاد بأنه واحد من أعضاء مجلس الثورة وكان يتصرف علي هذا الأساس، وكان من المقربين للمشير عبد الحكيم عامر وشكا له يوما كسل العاملين وتراخيهم، فجاء البوليس الحربي وقبض علي عدد منهم، كما أبعدوا بعدها عددا من الصحفيين وتم توزيعهم على الوزارات والشركات!
لم يستمر في الجمهورية أكثر من عام واحد بعده جاءنا الأديب الشاعر المهذب مرهف الحس والشعور مصطفي بهجت بدوي الذي عشت في فترته أشعر بالتقدير والمودة، وفي عهده سافرت إلي الجزائر وعشت مع ثوار جيش التحرير الوطني الجزائري وعدت إلي مصر بأربع عشرة صفحة نشرتها الجمهورية تباعا، وعن طريقها عرف الناس ما يحدث في الجزائر! وفي عام 1966 جاء فتحي غانم رئيسا لمجلس الإدارة ورئيسا للتحرير، وبعد مجيئه بفترة وقعت نكسة 1967!
Yousri elsaid@yahoo.com