توكة وليل وقمر
وكأن شعرها لغة تواصل بينها وبين العالم، فإن هي غضبت جمعته وقيدته بـ توكة سوداء منطفئة، وإن زارها اليأس يوما أسدلته كشلال ليل على كتفيها، وإن ارتبكت لمته خلف أذنيها، وإن فرحت تركت له العنان كطائر تحرر من القفص، وإن حزنت راحت تجدله ضفائر بلون الوجع، وإن كانت تفكر أخذت تمشطه بأصابعها النحيفة، وإن مر طيف معشوقها بخاطرها تصنع من خصلاتها أمواجا تحمل خيالها إلى القمر..
الأمهات ساحرات
الأمهات ساحرات، يجدن إخفاء الألم بين طيات الهواء، يقطبن جروح القلوب بلا خيوط، يرسمن البسمة على الوجوه المتعبة بلا فرشاة ولا ألوان، يجففن بحيرات الحزن بلا شمس، يصنعن الوسائد من راحات أيديهن، يمضغن الوجع فيصير فرحا، يبنين من أحضانهن بيوتا من الحب، أنفاسهن عطور، كلامهن زهور، نظراتهن فردوس، يحلن الخراب جمالا، ومن الموت ينجبن حياة..
بيوت قديمة
لو كانت لدي ثروة لاشتريت بها بيوتا قديمة، لأحيا في كل منها حيوات من عاشوا فيها قبلي. وحدها البيوت القديمة تطيل العمر، بل تمنحك عمرا جديدا، حيث تبيت أرواح سكانها الأصليين في شقوق الجدران، وداخل أُصُص الزرع، وعلى حواف براويز الصور، وفي أركان الغرف وزوايا الأرفف، ونقش الصواني النحاسية، وثنايا الثياب المطرزة، وبين صفحات الكتب المصفرة، وتحت الوسائد الصغيرة، وعلى أرجل المقاعد الخشبية.
كنت لأسمع حكايات الجدة العالقة منذ مئات السنين في أعمدة السرير بغرفتها، وأشم رائحة الخبز الساخن في نسيم الليل، وأتذوق طعم الفرح في القمر الجالس في السماء كطفل في ليلة عيد. كنت لأقلب الدهشة بين كفي، وأنا استمع للأغنية الوحيدة، التي يرددها الراديو ذو الأزرار الكبيرة، وأحرر صوت الخلخال المحبوس في شكمجية من الصدف، ثم أغفو بين يدي الزمن، لأصحو على حلم جديد.
شخص استثنائي
في يوم ما حتما ستلتقي شخصا استثنائيا سيفسد عليك حياتك، وهو لن يفسدها لعلة فيه بل لكونه الأكمل والأمثل، ذلك الشخص الذي ستراه الحد الأعلى لما يمكن أن تحلم به في شريك رحلتك، ذلك الذي لم يخطفك أحدا قبله ولن يفعلها أحدا بعده، وهو حتما سيرحل عنك ويتركك وحيدا تبحث عنه في ملامح العابرين.. ذلك قدر، فالكمال ليس من سمات حكايات العمر..
ستدعو الله ليلا أن يمحو ذاكرتك كي تتخلص من أسره، لكنك في كل صباح ستصلي لله شكرا لأنه وضعه في طريقك وإلا فمن اين لك أن تتذوق تلك المتعة التي لا تضاهيها متعة.. من أين لك أن تعرف أن الدنيا فيها حلمك إن لم تكن قد قابلته يوما، لمست يدك يده، تعانقت نظرتيكما، احتضنت أذنك صوته، شممت عطره، داعبت خصلة من شعره وجهك.. لكنه حتما سيفسد عليك حياتك، سيجعلك ترى كل الوجوه - إلا وجهه - متشابهة.
صناعة يدوية
حتى وإن تطابقت الملامح، فلا أحد منا يشبه الآخر، نحن صناعة يدوية لصانع ماهر لا يكرر القطعة نفسها مرتين، قطعة تُكسبها نقوش الزمن وتقلباته شكلًا فريدا لا يمكن تقليده.. وكذا إن نظرت في المرآة فلن ترى نفسك هناك، بل ستجد شحصا آخر مختلفًا لأنه يُرى بعين سحرية لا تشبهها عين.. عينك أنت.. أما تلك الصور التي تلتقطها الكاميرا، فهي ليست إلا محاولة لتثبيت لحظة كاذبة من عمرك باستخدام شبيه يجيد محاكاتك لكنه لست أنت أيها الفريد.. بينما ظلك مجرد تابع مرن اقتطعته بنفسك من الضوء لتحظى بصحبة تحت الشمس..