تأملات في العقل
لا شك أن الإنسان أكرم الكائنات واشرف المخلوقات وقد خصه الله تعالى بالفضل والتكريم.يقول تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا). والإنسان هو خليفة الله تعالى في أرضه والمسخر له عوالم الخلق في السماء والأرض. يقول عز وجل (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ)، وهو صنعة الله التي حازت الشرف والتكريم بأن عملت فيه يد القدرة الإلهية فلم يبدأ سبحانه خلقه بكلمة (كن) كسائر المخلوقات بل شرفه عز وجل بأن عملت فيه يد القدرة الإلهية وخلقه وسواه بيده عز وجل.
والإنسان صاحب أعظم مملكة في عالم الخلق والتكوين فقد جمع الله تعالى في مملكة الإنسان رباعية حوت أسرار الله تعالى في عالم الخلق. وهي العقل والقلب والنفس والروح.. العقل قائد ركب مملكة الإنسان والقلب ربان سفينة مملكة الإنسان وموطن الإيمان والتصديق ومحل النية وموضع نظر الله تعالى وخزينة أسراره.. والنفس هي جوهر ذات الإنسان والفاعلة فيه ومكمن سر سعادته أو شقائه.
والروح نفخة الرحمن وهي سر الحياة والوجود فيها تعمل مملكة الإنسان وبها هو كائن حي. هذا وأما عن العقل فهو مناط التكليف والتشريف ومناط الفهم والإدراك ومصدر الخلق والابتكار وهو المدرك للعلم والمعرفة والبيان. والله تعالى قد خص الإنسان كما ذكرنا من قبل بنعمة العقل والعلم والبيان. وفي الحقيقة أن للإنسان عقلان؛ عقل معقول به، يعقل الأمور الظاهرة وبه يزن ظواهر الأمور ويقيس ويحلل ويقارن ويفاضل ويميز ويصدق وينكر..
عقول القلوب
وهو في الحقيقة مقيد ومعقول بعقال الظواهر وهو عاجز تماما عن إدراك ذاته ومعرفة كنه وأيضا عاجز أمام الأمور الغيبة فلا محل ولا ضرب له فيما يتعلق بالأمور الغيبية فالأمور الغيبية مبطونة بعقل مبطون في القلب لا بعقل الرأس. والعقل العقلاني السليم يقود صاحبة الهداية والإيمان به وذلك بالنظر والتأمل والتدبر والتفكر ولكنه مع ذلك ليس محلا للإيمان وذلك لأن العقائد والقضايا الإيمانية كلها أمور متعلقة بالغيبيات لقوله تعالى: (الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).
من هنا نعلم ونعرف أن هناك عقلان.. عقل معقول وعقل آخر مبطون في القلب والذي هو محل الإيمان ومناطه. يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله (الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل). أي ما سكن واستقر في قلب العبد. هذا ولكل عقل ما يناسبه من الخطاب.. فللعقول المعقولة خطاب ومخاطبة لا تتجاوز دائرة المعقولات وظاهر الشرع الحنيف وما يتعلق بالأوامر والنواهي والحدود الشرعية والتكاليف والأحكام وما يتعلق بالعبادات والمعاملات..
هذا ولعقول القلوب أيضا خطاب ومخاطبة غالبها متعلق بالغيبات وعلوم الحقائق والمعارف والأسرار التي يفيض الله تعالى بها على قلوب أهل المحبة والإيمان والتقوى.. إذا هناك خطابين.. خطاب لأرباب العقول المعقولة وهو خطاب للعامة أهل القياس والنظر في المعقولات والمدرك. وخطاب لأرباب القلوب الذين فتح الله على قلوبهم واستنارت بصائرهم بعدما تزكت أنفسهم وطهرت قلوبهم من حب الدنيا ومن العلائق والأغيار وهم ما يشار إليهم بخاصة أهل الإيمان.
وهو خطاب خاص قاصر على أهله وقد لا يفهمه الكثير من الناس وقد ينكره أهل النظر والقياس. هذا وهناك خطاب خاص لخاصة الخاصة من الخواص لا يفهمه العامة ولا يدركه الخاصة. وقد ينكر العامة خطاب الخاصة ولهم عذرهم.. بل قد ينكر الخاصة من أهل الإيمان خطاب خاصة الخاصة لحكم الفوقية في العلم والمعرفة المشار إليها في قوله عز وجل: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)..
هذا ولقد أشار أحد العارفين بالله تعالى إلى خصوصية خطابهم بقوله: أخفوا المعاني في الإشارات وساقوا الحكم في العبارات وكل لبيب بالإشارة يفهم وما يذكر إلا أولو الألباب.. هذا ومن الحكمة مخاطبة كل عقل على قدره حفظا عليه من الفتنة ولصاحبه من التكذيب والإنكار فمن خاطب الناس بلغة لا يعرفونها فقد فتنهم.. ولقد أمرنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله بمخاطبة كل عقل على قدره حيث قال: (أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم). هذا وللحديث بقية إن شاء الله تعالى..