صدمة العمر!
رغم أن البيان العسكرى الأول يوم الخامس من يونيو عام ١٩٦٧ كان يبشرنا بردع العدوان الاسرائيلى إلا إننى لم أشعر بالاطمئنان وقتها، خاصة وأن الأنباء التى تدفقت علينا من مصادر أخرى غير مصرية كانت تتحدث عن ضربةَ كبيرة تعرضنا لها.. وكانت قد تراكمت لدى قبلها ملاحظات سلبية مقلقة عن الأوضاع الداخلية للبلاد جعلتنى لا أسارع إلى تصديق كل ما نقوله.. وللأسف الشديد ومع مرور الأيام صدق حدسى وتأكدنا جميعا إننا تعرضنا لهزيمة أليمة كانت بمثابة الصدمة لى وكل أبناء جيلى الذى قيل له أنه على موعد مع القدر!
كنت وقتها أخوض امتحانات السنة الثانية فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والتى توقفت فور بدء العدوان الاسرائيلى علينا.. والتحقت وعدد من الأصدقاء والزملاء لمعسكر تدريب عسكرى اقامته فى مدرسة السعيدية منظمة الشباب التى كنا ننتمى إليها، وليلا كنّا نقوم بأعمال الدفاع المدنى.. ومازلت أتذكر صورة ذلك الجندي الذى كانت ثيابه ممزقة وعثرنا عليه في أحد ميادين مدينة الجيزة وهو عائد مشيا على الأقدام من سيناء بعد أن صدرت لهم أوامر القيادة العسكرية بالانسحاب غير المنظم وبلا غطاء جوى يحميهم لآن طائراتنا كانت قد ضربت فى الساعات الآولى من العدوان الاسرائيلى وإقتحام سيناء..
وقد تركت هذه الصدمة في نفوسنا جرحا غائرا لم يندمل إلا بعد أن خضنا حرب أكتوبر وحققنا النصر فيها، فهى كانت صدمة العمر كله وصدمة الوطن كله وجراح النفوس لا تندمل إلا بالدم إذا كان الأمر يتعلق بالأرض والكرامة الوطنية.. لكن بقيت آثار لهذه الصدمة الكبيرة مغروسة في النفس منحتنى فضيلة مهمة تتلخص في ألا أمنح أحد شيكا على بياض، وألا أصدق كل ما أسمعه إلا بعد أن أعقله ويتكون لدى يقين بسلامته وصحته، وأن أزن مواقفى في ميزان مصلحة الوطن وحده، وليس ميزان الإنتماءات السياسية والعقائدية والفكرية أو الآهواء العاطفية أو الصداقات الشخصية.