ما تيسر من سيرة الشيخ "النادي"
تحلُّ في الأول من يونيو المقبل "غدًا" ذكرى واحد من أعلام دولة التلاوة المصرية وأكابرها القاريء الشيخ محمد حسن النادي. لم يعش النادي طويلًا، فقد أبصر النور بإحدى قرى محافظة الشرقية في العام 1923، وغيبه الموت في العام 1961، فلم يعش أكثر من 38 عامًا. ولو أمدَّ الله في عمره سنوات أخرى لتضاعفت شهرته وتعددت مُنجزاته. ورغم حياته القصيرة ورحيله قبل أكثر من ستة عقود كاملة إلا إن اسمه لا يزال خالدًا ولا تزال تسجيلاته القرآنية تؤكد أنه كان صاحب صوت ندىٍّ خاشع وأداء رفيع المستوى.
لم يشبه محمد حسن النادي أحدًا من القراء المتقدمين بل كانت له شخصيته المستقلة والمتفردة، وتلك كانت سمة أصيلة في الرعيل الأول من قراء القرآن الكريم. من القراء الذين رحلوا في مرحلة الشباب أيضًا وخلدهم القرآن الكريم الشيخان: محمد صديق المنشاوي وكامل يوسف البهتيمي اللذان جمعتهما الصداقة والرحيل في عُمر 49 عامًا.
ينضم محمد حسن النادي إلى سلسلة القراء العميان الذين أسهموا في تاريخ دولة التلاوة المصرية مثل: محمد رفعت وعلي محمود ومحمود محمد رمضان وعبد العزيز على فرج وأحمد أبو المعاطي ومحمد عبد العزيز حصَّان وآخرين، وتلك آية بديعة من آيات الله في أرضه. لم يستسلم الطفل الصغير لعاهة العمى التي داهمته، ولم يشعر بأن حياته صارت مؤجلة أو بلا قيمة، بل انخرط سريعًا في حفظ القرآن الكريم ولم يكن تجاوز عامه الثاني عشر، كما أتقن أحكام التجويد والقراءات المختلفة، وطبَّقت شهرته الآفاق سريعًا في الشرقية ومحافظات القناة.
أصغر القراء
عندما أتمَّ عامه الثاني والعشرين.. إنتقل محمد حسن النادي من محافظة الشرقية إلى محافظة الأسكندرية وقرأ السورة في المسجد العباسي. وذات جُمعة.. حضر الملك فاروق شعائر الصلاة واستمع إلى صوت القاريء الشاب فأعجب به أيَّما إعجاب، ووجَّه باعتماده بالإذاعة، وكان ذلك في العام 1948، وكان ابن 25 عامًا؛ ليكون واحدًا من أصغر القراء اعتمادًا في تاريخ الإذاعة المصرية.
من الإنصاف هنا أن ننوِّه إلى الذوق الرفيع للملك فاروق في انتقاء المواهب القرآنية، فهو من تعهد أيضًا القاريء الشيخ مصطفى إسماعيل أحد الأعمدة الرئيسية والراسخة لدولة التلاوة المصرية.
لعب الشيخ زكريا أحمد دورًا مؤثرًا في حياة محمد حسن النادي، حيث افتتن بموهبته الفنية في الغناء والإنشاد، فتعهده بالرعاية والنصح والإرشاد والإشادة به في كل المحافل والمناسبات الفنية التي كان يحضرها.
وخلال فترة قصيرة جدًا.. أصبح محمد حسن النادي من الأسماء المعدودة في عالم تلاوة القرآن الكريم ترتيلًا وتجويدًا، وفي إنشاد القصة النبوية والقصائد الدينية، وكذلك غناء الأدوار والموشحات، وكانت موهبته متدفقة فيها جميعًا، وإنشاده قصيدة: "قلبي سواك ما عبد" التي تقول كلماتها: قلبي سواك ما عبد/ وجهي لنورك سجد/ أنت الإله الأحد، دليل دامغ على عبقريته الفنية المتفردة. كان محمد حسن النادي قارئًا متقنًا ومبتهلًا بديعًا ومطربًا موهوبًا وعازف عود من طراز فريد.
وخلال سنواته القليلة نسبيًا في الإذاعة المصرية..سجَّل محمد حسن النادي عددًا من التلاوات القرآنية التي يتم إذاعتها عبر الشبكات الإذاعية المختلفة، منذ وفاته قبل 61 عامًا وحتى يومنا هذا، وتحمل في ثناياها ملامح وصوت وبصمة قاريء استثنائي ومختلف وعظيم. أداؤه في تلاوة سورتي: يوسف ومريم وغيرهما يضعه في مصاف القراء العظام عن جدارة واستحقاق.
وفي ذروة توهجه وتألقه.. قضى “النادي” نحبه وهو في ريعان شبابه. وكان موته المفاجيء صدمة لكل محبيه، وكل من كانوا يجدون فيه مشروعًا فنيًا متكاملًا.. ولكنها إرادة الله تعالى في خلقه وملكوته، لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون.