في ذكرى بابا الشيخ رمضان
واحد وأربعون عامًا بالتمام والكمال مرت على وفاة أحد عباقرة التلاوة وهو القارئ الشيخ محمود محمد رمضان، الذي وُلد بحي باب الشعرية بالقاهرة في العشرين من ديسمبر 1927 ورحل في مثل هذا اليوم، الثامن والعشرين من مايو 1981. ورغم الرحيل البعيد نسبيًا، إلا أن الرجل لا يزال يحتفظ بمكانة رفيعة عند مستمعي القرآن الكريم؛ باعتباره كان قارئًا مُتقنًا مخلصًا من الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته، بعدما أصبحنا في زمن عزَّ فيه الإتقان والإخلاص.
قبل أن يُكمل عامه العاشر، كان الطفل الكفيف قد أتمَّ حفظ كتاب الله، ثم راجعه وجوَّده بالأحكام، ليقرأ في المحافل القرآنية، ويعرفه الناس مبكرًا جدًا. لم يكن الشيخ الراحل قارئًا نمطيًا كلاسيكيًا، بل حباه الله صوتًا مميزًا جعله صاحب مدرسة فريدة في التلاوة، وجعل صوته معروفًا ومحددًا، يمكن تمييزه من بين عشرات الأصوات حتى يومنا هذا، بعدما صِرنا إلى زمن تتشابه فيه الأصوات وتختلط ويصعب تمييزها، كما كان يقول نقيبا القراء السابقان: الشيخ أبو العينين شعيشع والشيخ محمد محمود الطبلاوي رحمهما الله تعالى.
حرص الفتى رمضان على تعلُّم المقامات الموسيقية وإتقانها، حتى هام حُبًّا في الأنغام وأضحى صاحبَ مدرسة قراءة مختلفة، وهو ما انعكس على ثقته في نفسه، عندما خضع لاختبارات الإذاعة المصرية التي التحق بها في مرحلة متأخرة من عمره نسبيًا.
معجزة الشيخ رمضان
أهالى ومعارفُ وجيرانُ الطفل الصغير كانوا يُجلُّون موهبته ويقدرونها حقَّ قدرها، حتى نعتوه مبكرًا جدًا بـ المعجزة، وبدا ذلك واضحًا عندما استعانوا به، وهو دون العاشرة، ليقرأ في حفل تحويل مدرسة التجارة، بقرار ملكي، إلى كلية التجارة، على أن تتبع جامعة القاهرة، ووصفه مُقدم الحفل يومئذ بـ القارئ المعجزة!
كان القارئ الواعد يخطف ألباب السمّيعة، ويُبهج آذان من يفهمون في الموسيقى، حيث كان يجلس أسفل قدميه المئاتُ، يُحثونَه على الاستزادة، مُرددين: إحنا قاعدين معاك للصبح يا شيخ رمضان، وحدث ذلك في عزاء القاريء الراحل محمود خليل الحصري، والذكرى الأولى للمطرب الراحل عبد الحليم حافظ، وكان من بين الحاضرين: الموسيقار محمد عبد الوهاب والملحن كمال الطويل والشيخ سيد مكاوي وغيرهم الذين أجمعوا على إعجابهم الشديد بموهبته المتفردة، وكانوا يطلبون منه إعادة بعض الآيات بطريقته المُثلى.
كان للشيخ رمضان أسلوبه الخاص في تقطيع الآيات، ففي سورة طه مثلًا، يتلو الحوار الدائر بين الله وسيدنا موسى عليه السلام بشكل قصصي، لا يتسرَّعُ في السرد، ولا يخلُّ بقواعد الوقف والوصل، يحكي الحوار فيتخيله السامع، أو يقرر أن يقرأ 3 آيات فقط من سورة بعينها، ليُعبِّر بها عن قصة بعينها، أو يتعمد عدم البدء من أول الربع كما فعل بسورة الشعراء، حينما بدأ إحدى تلاواته بآية: “إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ”، إذ كانت الآية الأخيرة في الربع الأول من السورة، لكنه استهلّ بها قراءته ليُبشر المُنصتين ويثلج صدورهم ويُبهج قلوبهم ويُدخل السرور على نفوسهم.
رغم الشهرة الواسعة التي حظي بها في مرحلة مبكرة من حياته إلا إن الشيخ رمضان كان مُحبًا ودودًا كريم المعشر طيب الأثر، وكان حنانه يتضاعف مع الأطفال والصغار، حيث كان يشتري لهم الحلوى ويعرف أسماءهم واحدًا واحدًا،، فأطلقوا عليه: بابا الشيخ رمضان!
التحق الشيخ رمضان بالإذاعة المصرية متأخرًا في عام 1972، فيما كان رفقاء جيله قد انضموا إليها في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وأثار إعجاب أعضاء لجنة الاختبار ودهشتهم وأثنوَا جميعًا على موهبته. قبل أن يُكمل الشيخ رمضان عامه الرابع والخمسين جاءه الموت؛ ليرحل تاركًا خلفه سيرة طيبة وميراثًا قرآنيًا خالدًا واسمًا لامعًا في سماء دولة التلاوة المصرية.. التي كانت!!