صرخة مهنة!!
بعد أن أفرغ كثيرون شهوتهم في الكلام المباح وغير المباح وفي الحروب الشخصية والعامة، رحل عماد الفقي الصحفي بالأهرام تاركا أسئلة دون إجابات، وبصحبته أسرار عميقة وغموض حول حقيقة رحيله أو الرسائل التي أراد أن يبعثها بموت يستعصي على الوصف، وعلى التصديق لدى كثيرين مع عدم استبعاد ألا تكون روايات الانتحار حقيقية وربما تكون جريمة قتل.
وكان يمكنه أن يرحل في أي مكان ولكن في مكتبه أو من شرفة مكتبه دليل على الرغبة في إحراج الجميع بطريقة أرادها لوفاته أن يزلزل الأرجاء في بلاط صاحبة الجلالة، بعد أن فقد ذلك البلاط جلالته بفعل عوامل كثيرة، ثم إن مؤسسة الأهرام يديرها زميلان علي أكبر قدر من الأدب والإنسانية وهما من نبت المؤسسة وعلاقاتهما بالجميع تقوم علي الزمالة والعشرة.
وأيضا من المؤكد أن أحدا لا يستطيع دفن موهبة أو كفاءة أي صحفي للأبد، وأخيرا هناك تقاليد مؤسسية بالأهرام لم تتزعزع بتغيير القيادات، وهناك لوائح منصبطة لأقصي حد ولهذا استبعد روايات المظلومية التي ترددت.
صرخة احتجاج
كل ما هنالك أن المهنة لم تعد كما كانت فقدت هيبتها ورونقها وتأثيرها وذبلت أغصانها وانطفأت أنوارها وتصدعت جدرانها، وصار بلاط صاحبة الجلالة أطلالا تبكي زمن الصحافة الجميل.
تلك الفاجعة عرت أرواحا وعقولا عديدة بدلا من بحث أسباب الواقعة تحولت إلي دائرة اتهامات ومشاكل ومطالب مادية وهتافات بينما أسباب المأساة أيا كانت شخصية أو مهنية ضاعت وراء عقلية الصراخ اللامهنية بامتياز!
فموت عماد الفقي لن يكون موتا عابرا رغم الحدث الجلل لأنه ترك لدي كل أبناء المهنة مزيجا من الخوف وعدم الأمان والارتباك، والمرارة، والعجز ولا أعرف هل تلك الوفاة صرخة أم إعلان مدوٍ عن حبر جف في قلم مكسور. أم مداد نضب ومطابع خردت وصحف شاخت.. موت بمثابة صرخة احتجاج علي واقع المجتمع كله، إختيار المكان دلالة واضحة وإدانة للمنظومة بالكامل.
وأصبحنا جميعًا شهود علي انتحار مهنة وانتحار أخلاق، وانتحار انسانية، نعيش لنجمع أشلاء من أرواحنا وعمرنا ومهنتنا قبل أن نجمع أشلاء زميل لم يحتمل القهر والموت كل يوم علي عتبات صاحبة العذاب التي صدقنا يومًا أنها صاحبة الجلالة..
إن رحيل عماد الفقي هو جرس الإنذار الأقوى منذ سنوات، وهو مؤشر خطير وكاشف لأحوال مهنة الصحافة وأوضاع الصحفيين لا سيما الشباب منهم..
القاتل الحقيقي
فالصمت بعد الآن بات جريمة في حق تلك المهنة وحوادث الرحيل ستزداد مع ازدياد حالة الإحباط التي أصابت المجتمع مع ازدياد الضغوط بشكل غير مسبوق وغياب أي أفق للخروج من الأزمة المتفاقمة ومَنْ يحاول إلصاق تهمة القتل برئيس تحرير أو نقيب صحفيين أو رئيس هيئة أو مجلس لأنه لم يقم بدوره أو قام بعكس ما يجب أن يكون عليه دوره، فكان دافعًا لانتحار الزميل، قد أخطأ البوصلة..
فالقاتل الحقيقي هو صاحب القرار الذي دمر المهنة، ثم إنه من الصعب للشخص أن يتخلص من حياته نتيجة اضطهاده ما لم يكن مريضا بالاكتئاب، وبدرجة متقدمة وفي هذا إدانة لكل من كانوا حوله أن تركوه بدون علاج أو حتي منحه الفرصة لمجرد الفضفضة والشكوي وتفريغ شحنات الغضب والقهر.. عموما لعل الرسالة الأهم التي وصلتنا من حادثة الرحيل هي أن المهنة في أصعب لحظات تاريخها على الإطلاق، وأن الدور الملقى على عاتق نقابة الصحفيين وأعضاء جمعيتها العمومية أضحى كبيرًا وعاجلًا أكثر من أي وقت مضى.
ولا أتصور عقد حوار وطني محتمل في غياب صحافة حرة ومستقلة فإذا كان ثمة نية جادة وحقيقية لـ حوار وطني وهو ما نأمله جميعا فلتخرج الصحافة من ثلاجة حفظ جثث الموتى. ومنحها الحصانة القانونية والدستورية ما يعصمها من أدوات الملاحقات الخشنة والمفتعلة.
يا رب إننا لا نصدق أن عماد الفقي رحل بهذه الطريقة لكننا نصدق أنك العفو الغفور.. اللهم رحمة وعفوا لعماد الفقي وبردا على روحه الموجوعة واللهم سامحه وارحمنا وارحم تلك المهنة من بعض أبنائها قبل أعدائها.
