الصمت حين يجب الكلام
في كل حواراتنا كانت الكلمات تموت فجأة، تداهمنا سكتة كلامية فنسكت.. لم تنته أي محادثة بيننا بشكل يشبه تلك النهايات الطبيعية سواء باستئذان للانصراف أو بكلمة وداع تحمل أمل في محادثة قريبة.. وهكذا أيضا تبدأ حواراتنا.. فجأة، نتحدث بدون مقدمات لنعيد حوارا قديما ميتا إلى الحياة مرة أخرى أو لنخلق حوارا جديدا دون مخاض الولادة.. في كل مرة يموت الحوار بيننا هكذا أقسم أنها ستكون الأخيرة وأني سأتجاهل الرد حين تحادثني في المرة التالية، غير أنني لا أصمد للحظة حين أسمع تنبيه ورود رسالة جديدة منها.. فأرد على كلمتها بعبارة وعبارتها بجملة وجملتها بحكاية طويلة..
* يجب أن نشعر بالامتنان لهؤلاء الذين يفتحون قلوبهم لنا ويحكون باستفاضة عن حياتهم وأسرارهم ومشاعرهم، فإذا كنا نحن نمنحهم أغلى ما نملك وهو الوقت، فهم يمنحونا جزءا من روحهم في كل كلمة تخرج منهم، كما أن حديثهم معنا ينطوي على اعتراف بأن لدينا من الإنسانية القدر الذي يجعلنا أهلا للأمانة.
مساحة للحب
* اعتدت وزينب أن نجلس كل صباح في مطبخنا الواسع، الذي تطل شرفته الكبيرة على حديقتنا الصغيرة. أعد أنا القهوة على مهل، بينما تجهز هي فطورنا التقليدي: شريحتي خبز محمص وبعض الجبن المصنوع منزليا وعنقود عنب يقطف طازجا من التكعيبة التي تظلل نصف الممشى المؤدي إلى البوابة الأمامية لمنزلنا.
في الحديقة زهور ملونة، وشجيرات غرسناها قبل سنوات، ومساحة من الخضروات التي تكفي احتياجتنا ونهدي بعضا منها للأحباب، وقربها بعض الدجاجات وطيور أخرى تفحص الأرض بأرجلها وكأنها تبحث عن كنز، ولا يبعدها عن بحثها الدؤوب سوى الفوضى التي تحدثها طفلتنا الصغيرة وهي تطارد الفراشات الملونة.
حين بنينا منزلنا هذا، منحنا المساحة الأكبر للمطبخ، فمعظم الوقت نقضيه سويا فيه، ويبقى إعداد الطعام أمرا ثانويا إذا ما قدرنا ذلك الوقت الذي نستغرقه هنا كل يوم في الحكي واللعب.. لهذا صنعنا ترابيزة مستطيلة من الخشب وأربعة كراسي، ثلاثة منها لنا، والرابع لضيف محتمل. هنا عالمي، مساحة صغيرة بحسباتكم لكنها كافية للحب الذي ينمو بيننا كشجرة لبلاب عتيقة فروعها تسافر في كل الأنحاء.
حب وغيرة
* الغيرة، عملية صيانة للحب تشمل فك وإعادة تركيب مكوناته لعلاج أي خلل فيه واستبدال أي جزء تالف علشان يفضل ميكانيزم الحب شغال بكفاءة، وطبعا عملية الصيانة لازم تكون لسبب مش عمال على بطال علشان الجهاز ميبوظش من كتر الفتح والقفل لامؤاخذة، ولو الجهاز محتاج يروح للصيانة كل يومين يبقى ربنا يعوض..
* إذا أردت أن تطمئن عليها فلا تسألها كيف حالك، اسألها عن الكتاب الذي تقرأوه، وآخر مرة تناولت فيها طعاما تحبه، هل سقت زهرتها الوحيدة، ما هو آخر فيلم شاهدته في السينما، عن خططها لعطلة نهاية الأسبوع، وماذا فعلت قطتها الصغيرة، عن لون الروج الذي تحبه، ومضايقات مديرها في العمل، عن مكان ستسافر إليه هذا الصيف، ومغامرات رفيقاتها في السكن، اسألها عما تحب وتكره لتعرف حالها..
حكاية شبح
* كلما دقت الساعة الثانية عشرة، معلنة منتصف ليل اليوم الأول من كل شهر، سمعت طرقات على باب الشقة، وحين أفتحه أجد أمامي كشاف النور واضعا على عينيه نظارة سوداء، ودون أن يتحدث، يعطيني وصلا فأعطيه قيمته، بينما يوجه هو الكشاف في يده نحو العداد ويدون رقما ثم يرحل..
حدث ذلك لعام كامل، إلى أن جاءني رجلا من شركة الكهرباء يطلب مني بطاقتي الشخصية، وحين سألته عن السبب أخبرني أنه الموظف المختص بتوصيل التيار الكهربي لهذه المنطقة الجديدة التي لم تُسكن بعد..
وحين قلت له إن بيتي تصله الكهرباء بالفعل، ضحك ساخرا وقال: أنت سابع شبح يخبرني بالأمر نفسه.. يا سيدي أنت شبح، يجب أن تعترف بذلك وترحل كي تعطي مساحة للأحياء الذين سيسكنون هذا البيت.. صحت غاضبا، وطلبت من الرجل المجنون أن يبتعد، فقال: صدقني أنا خائف عليك.. إذ بقيت هنا سيأتي الأحياء ويقلقون راحتك..
قلت: إذا كان كلامك صحيحا، فلماذا أنا هنا؟ لماذا لست في الجنة ولا جهنم؟!
قال: يا صديقي الشبح، لقد مت فعلا وغادرت جسدك.. لكنك في الفترة التي عشتها لم تفعل شيئا من أجل الدنيا ولا من أجل الآخرة.. لقد كنت كنصل بارد لم تساعد جراحا في إنقاذ حياة مريض ولم تكن سببا في مقتل أحد.. لم تظلم أحدا، لكنك كذلك لم تنصر مظلوما.. لم تكذب، ولم تقل يوما كلمة حق.. يا صديقي الشبح في دنياك لم تكن شيئا..
قلت: ولكن، ألا يكفي المرء ألا يكون سببا في ألم أو ظلم أحد ليدخل الجنة؟!
قال: يا صديقي الشبح إن الصمت حين يجب الكلام.. جريمة.