ليس حبًا بل خوف من التطرف
تنفست أوروبا والغرب كله الصعداء بفوز الرئيس إيمانويل ماكرون، في انتخابات رئاسية عالية الخطورة، وغمر الفخر مصر وكثير من العرب، بأداء مذهل للنشيد الوطني الفرنسي قدمته المصرية فرح الديباني، وهي على المنصة بجوار الرئيس الفائز بولاية ثانية وحرمه، وأمام آلاف الحضور وملايين المشاهدين عبر التلفزة، ما أجبر الرئيس ماكرون على الانحناء أمامها وتقبيل يدها، في مشهد أثار تفاعلًا عالميًا..
وتناقلته وكالات الأنباء والتلفزة وأعرب آلاف المغردين عن إعجابهم بصوت وأداء فرح الديباني وتصرف الرئيس الفرنسي، وبانتهاء الاحتفال تسابقت وسائل الإعلام على الظفر بتصريح من فرح، باعتبارها أول أجنبية تغني النشيد الوطني الفرنسي في حفل رئاسي، وكانت المفاجأة في تكليفها بالغناء قبل يوم واحد من الحفل، فجاءت مسرعة من جنيف إلى باريس لإجراء بروفات، لأن حفل النصر الرئاسي لا يحتمل الخطأ.
انقسام فرنسي
هزم ماكرون مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، بنسبة فوق المتوسط، صحيح أنها تقل عن نسبة فوزه عليها قبل خمس سنوات، لكنه انتصر ومنع وصول اليمين المتطرف إلى الإليزيه، وبهذا النصر يحقق ماكرون انجازا بتولي الرئاسة لدورتين متتاليتين لينضم إلى سلفيه فرانسوا ميتران وجاك شيراك. لكن يظل لديه تحديا جديدا في الانتخابات التشريعية يونيو المقبل، بعدما تعهدت مارين لوبان "بمواصلة الكفاح السياسي في الانتخابات التشريعية وعدم التخلي عن الفرنسيين خصوصا الفقراء والطبقة المتوسطة، أكثر الفئات تضررا من سياسة ماكرون المنحازة كليا للأغنياء"..
وأقرت مارين لوبان بالهزيمة لكنها أبدت سعادة بالغة بالنسبة التي حصلت عليها وهي تزيد كثيرا عما حققته في الانتخابات الرئاسية الماضية، ما يعني أن ثقة الفرنسيين فيها تزداد مقابل تراجع أسهم الرئيس ماكرون، وقالت: "رغم الخسارة أتمسك بالأمل، لأن هذه النتيجة تعكس عدم ثقة الشعب الفرنسي في السياسات الحالية، وستكون معارضتنا قوية ونواصل العمل ضد سياسات ماكرون أكثر رؤساء فرنسا استبدادا وعجرفة".
اعتمدت مارين، في الخطاب الذي ألقته أمام مناصريها على الانقسام الفرنسي الشديد بين اليمين المتطرف الذي تقوده وارتفعت اسهمه في الانتخابات الرئاسية، وبين الوسط بقيادة الرئيس ماكرون، واليسار بقيادة جان لوك ميلانشون، الذي دعا بدوره مناصريه إلى عدم الاستسلام للمنظومة، التي تقود فرنسا والتغلب عليها في الانتخابات التشريعة المقبلة.
شعبية مارين لوبان
وفي مقابل خطاب مارين لوبان وميلانشون، تعهد الرئيس ماكرون بتجديد سياسته كليا خلال الولاية الثانية والعمل على توحيد الشعب الفرنسي، مؤكدا أنه رئيس للجميع، وسعى جاهدا لمنع وصول اليمين المتطرف إلى السلطة حفاظا على فرنسا، وحتى لا يتغير وجهها المشرق عالميا، كما يدرك أن كثير من الأصوات التي نالها من غير مناصريه، لم تكن تأييدا لسياسته أو حبا فيه، بل خوفا من وصول اليمين المتطرف إلى الحكم.
وبالنظر إلى معدل الأصوات في الجولة الثانية الحاسمة للانتخابات الرئاسية، يتضح أن الغلبة كانت للامتناع عن الاقتراع، إذ غاب ثلاثة عشر مليون ناخب مع تسجيل أربعة ملايين صوت أبيض، ما يعني ان سبعة عشر مليون فرنسي لا يؤيدون سياسة رئيس الوسط ماكرون، ولا يريدون زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، وترجم ذلك عمليا بتظاهر كثير من الفرنسيين احتجاجا على فوز ماكرون بولاية ثانية في وقت احتفاله بالنصر الرئاسي وسط مؤيديه.
اعتادت فرنسا كمركز للإشعاع الأوروبي، أن يحكمها قادة بارزون بعقول راجحة تعكس هوية بلد الثقافة والفن والتنوير، لذا اختير نظام الانتخاب الرئاسي من جولتين، لقطع الطريق على فوز الأحزاب المتطرفة بالرئاسة الفرنسية، لذا خشي الفرنسيين والغرب وأميركا من احتمال وصول مارين لوبان إلى الحكم، خصوصا في ظل زيادة شعبيتها عن السابق، لأن مارين لوبان لديها اتجاهات عنيفة وتتبنى التطرف ضد الإسلام، حلف الناتو، الاتحاد الأوروبي، المهاجرين، منظومة الإعلام، السياسة الفرنسية المعتادة، ودعت صراحة إلى طرد الأجانب جميعا، منع الحجاب، الابتعاد عن ألمانيا، الخروج من الاتحاد الأوروبي لأنه وراء الأزمات التي تعانيها فرنسا، والتحالف مع روسيا نظرا لعلاقتها الوطيدة مع الرئيس فلاديمير بوتين.
إصرار مارين لوبان، على سياستها العنصرية المتطرفة، جعل كثيرا من الفرنسيين يعتبرونها مرشحة عنصرية، ومنحوا أصواتهم للرئيس ماكرون، حتى وإن كانوا لا يؤيدون سياستهم المنحازة للأثرياء ورجال الأعمال، كما تمنت دول أوروبا والولايات المتحدة التخلص من مارين، كي لا ينهار الاتحاد الأوروبي وتسقط السوق المشتركة ومؤسسات الاتحاد وتهوى أوروبا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، أما فوز ماكرون فيعني استقرار منطقة اليورو بقيادة فرنسا وألمانيا، والحفاظ على فرنسا قوية متماسكة، حتى يتمكن الجميع من مواجهة روسيا في حربها ضد أوكرانيا، تحت راية حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لذلك تعهد ماكرون بحل كثير من القضايا الداخلية وإصلاح الخلل، وتقوية الاتحاد الأوروبي بالتعاون الوثيق.