كسر عظم بين ماكرون ومارين
تترقب فرنسا اليوم مناظرة متلفزة تمثل نقطة تحول في الجولة الحاسمة من الانتخابات الرئاسية، بين الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، وعلى ضوئها تحسم الأصوات في اقتراع الأحد المقبل، التي تحدد سيد الإليزيه لخمس سنوات، ومع ان ماكرون يحظى بأفضلية طفيفة وفق استطلاعات الرأي، لكنه يخشى مفاجأة من منافسته مارين، التي تأهلت معه من الجولة الأولى بنسبة أصوات غير متوقعة، ما يجعل مناظرة اليوم بمثابة "كسر عظم".
سيهاجم ماكرون منافسته اليمينية ويركز على تطرفها، بأداء جاذب يتخلص فيه من أستاذيته المعهودة وتعاليه المفرط، ليحسم استمراره في الإليزيه لدورة ثانية، بينما تضغط مارين باتجاه أخطاء ماكرون خلال ولايته الأولى سعيًا لتكريس نفسه زعيمًا دوليًا واهتمامه بالسياسة الخارجية على حساب قضايا ومشكلات الداخل الفرنسي، ومحاولة تأكيد مصداقيتها وطمأنة الناخبين، خصوصا تجاه موقفها الرافض للحجاب وسعيها لمنعه في فرنسا، ثم تحسين صورتها بعدما اتهمها مكتب مكافحة الاحتيال الأوروبي ومقربين منها باختلاس نصف مليون يورو من الأموال العامة الأوروبية خلال عضويتهم في البرلمان الأوروبي.
بلوغ ماكرون ومارين الجولة الحاسمة، يكرر سيناريو الانتخابات الرئاسية قبل عشرين عامًا وفاز بها الرئيس الراحل جاك شيراك، بولاية ثانية، بعد تغلبه على والد مارين، اليميني المتطرف جان ماري لوبان، وإن صحت نتائج الاستطلاعات، فسيصبح إيمانويل ماكرون أول رئيس فرنسي يتولى الحكم لولايتين منذ عهد جاك شيراك، ويهزم مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، مثلما هزم شيراك والدها.
معركة حاسمة
تعتبر الانتخابات الفرنسية الراهنة، الأكثر أهمية والأغرب منذ عقود، إذ دخلها الرئيس ماكرون مطمئنًا إلى فوز مريح، لأنه يمثل الشباب، إلى جانب انقسام المعارضة، لكن كانت الصدمة في ضعف المشاركة وامتناع فئات عدة عن التصويت بينهم الفقراء والمهمشين الذين لا يلتفت إليهم ماكرون.
تلقت الأحزاب الفرنسية الكبرى صفعة بتحقيقها أدنى نسبة على الإطلاق، وبهزيمتها دعت مناصريها إلى دعم ماكرون في الجولة الحاسمة وقطع الطريق على اليمين المتطرف بعدم التصويت لمصلحة مارين، التي استغلت انشغال ماكرون في القضايا الخارجية وتكريس دوره كزعيم سياسي دولي، وتجولت لأسابيع عدة في أحياء فرنسا المهمشة، وركزت على قضايا غلاء المعيشة والغضب المتزايد تجاه النخبة السياسية واستبداد ماكرون في التعامل مع المشكلات الداخلية.
نتائج الجولة الأولى من الانتخابات وتقارب الأصوات التي حققتها مارين مع الرئيس ماكرون، وضعت عواصم أوروبا في حالة قلق وترقب لما تسفر عنه الجولة الحاسمة خشية تفوق لوبان، لأن توليها رئاسة فرنسا بمثابة زلزال تصل ارتداداته إلى العالم كله.
القلق الأوروبي مرده علاقة مارين المتينة مع روسيا وتأييدها سياسة الرئيس فلاديمير بوتين ورغبتها في التحالف معه، والتباعد عن ألمانيا وإعادة النظر في الاتحاد الأوروبي بشكله الراهن، ما يضع أوروبا بأكملها على المحك في حال وصول مارين إلى الإليزيه.
اعتبر ساسة أوروبا من المحافظين واليساريين، أن نتائج الجولة الأولى من انتخابات فرنسا صادمة ومفاجئة، لأن أكثر من نصف المقترعين صوتوا لأقصى اليمين واليسار، ما يكشف حدة الانقسام وعدم الثقة لدى فئات واسعة من الفرنسيين في الوحدة الأوروبية، بعدما تعامل الرئيس ماكرون مع الشعب بتعالٍ وترك مشكلاته اليومية وقدم نفسه بصفته رئيس الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي وزعيم عالمي يدير الأزمات الدولية، على حساب مصلحة الفرنسيين وقضاياهم الداخلية، فتغيرت نظرة الشعب إليه كرئيس يمثل الأمل وصوت الجيل الجديد.
زادت الصدمة الأوروبية من انهيار الأحزاب الكبيرة في اليمين المحافظ واليسار الاجتماعي، وحصولها على أدنى نسبة أصوات على الإطلاق، مقابل ارتفاع نسبة أصوات مرشح أقصى اليسار، جون لوك ميلونشون، والتي تجاوزت خُمس أصوات الناخبين، ما يجعل موقف كتلته مؤثرا بشكل كبير، ورغم دعوة ميلونشون لعدم التصويت لمرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، إلا أنه لم يحث على التصويت لماكرون، وعليه لا يُستبعد أن يصوت بعض ناخبيه لمارين، التي ركزت حملتها بين الفئات الفقيرة والمتوسطة المتضررة من تداعيات "كورونا" وحرب أوكرانيا وسياسة ماكرون الليبرالية، وهي فئات تشكل تقليديًا القاعدة الانتخابية للأحزاب اليسارية.
تداركت مارين، أخطاء الانتخابات الرئاسية السابقة التي اكتسحها فيها الرئيس ماكرون قبل خمس سنوات، وقللت من عنصريتها وتصريحاتها ضد المهاجرين والعداء للمسلمين ورفضها الحريات العامة وتضامنت مع الفقراء وأصحاب الأجور المتدنية، وعليه تراجع الإعلام عن شيطنة لوبان، التي استفادت أيضا من تطرف وعنصرية المرشح إريك زامور وبدت أمامه أكثر تسامحًا وأقل خطورة في ظل دفاعها عن الفرنسيين الأصليين والفئات الأكثر هشاشة.
انحياز مارين، للفرنسيين البسطاء وتعهدها بتحسين أوضاعهم مقابل المهاجرين، وتركيزها على أنها ستدير فرنسا "كربة منزل تحافظ على أسرتها"، جعل الرئيس ماكرون يتعهد بتجديد سياسته تجديدًا كاملًا ووضع قضايا البيئة ضمن أولويات ولايته الرئاسية الثانية.