اعتذار غير واجب!
عزيزى ميكافيللى.. مساء الخير.. لعلكَ بخير فى قبرك، وإنْ كنتُ أظنُّ غيرَ ذلك. إنما أبعثُ إليك برسالتى تلكَ؛ ليس لأطمئنَ عليك، فمثلك ليسَ فى حاجةٍ إلى مثلى؛ فأنت تمتلكُ من المكر حيًا وميتًا، ما يغنيك عن غيرك، كما إن أمرك لا يهمني من قريب أو بعيد.
عزيزى ميكافيللى.. لقد أخبرتُك من قبلُ بأننى لا أحبك ولا أقدِّر أفكارك، ولا أثُمِّنُ منهجك. ورغم أنك لم تُبدِ تضجُّرًا يومئذٍ، إلا إننى – مع تقادم السنين والأعوام، وجدتُ نفسى مدينًا بالاعتذار لك ولى فى آنٍ واحدٍ؛ فما كان ينبغى عليَّ أن أتسرعَ فى الحكم على أفكارك فأرفضها وأعتبرها نقيضًا للمثالية والإنسانية، كما إننى مدينٌ لنفسى باعتذار ثانٍ؛ لأننى خسرتُ كثيرًا عندما أعرضتُ عن طريقتك المُثلى!
لعلك تذكرُ يا سيد ميكافيللى، أننى ثرتُ وغضبتُ عندما أوصيتنى بنطريتك الخالدة: "الغاية تبرر الوسيلة"، ووجهتنى باتخاذها منهجًا وحيدًا لى فى حياتى، حتى أدرك النجاح ولا يتخلى أىٌّ منا عن الآخر. ولعلك تذكرُ أيضًا كيف سخرتَ من رِدة فعلى، وأشرتَ إلى خادمك وندمائك فى قبرك بأننى قد أكون مجنونًا أو مخبولًا، وقلتَ لي غاضبًا: "المقابلة انتهت"!
نصائح ميكافيللى
لقد أثبتتْ تقلباتُ الحياة معي ومع غيري – يا سيد ميكافيللى - أنَّ نظريتك، التى أفضتَ لى فى شرحها والحديث عن إيجابياتها، هى عينُ الصواب، وأنه لا سبيلَ إلى النجاح فى المدينة غير الفاضلة بدونها، وأدركتُ أني بالفعل كنتُ مجنونًا ومخبولًا عندما عارضتًك.
أذكرُ أيضًا يا سيدَ قومك أنك قلتَ لى ناصحًا: " لا تُحسنْ الظنَّ بأحدٍ، ولا تقدمْ يدَ العون لأحد، ولا تخجلْ من استخدام كلِّ الحيل والوسائل؛ لتحصلَ على ما تريد بأقصر الطرق. الموهبة والإخلاص فى العمل – وحدهما- لا يكفلان النجاح"، كما أذكرُ وصيتك الرائعة: "لا تكنْ مثاليًا؛ فالمثاليةُ لا تصنع إنسانًا ناجحًا، ولكن تصنع السّذجَ".
عزيزى ميكافيللى، مهلًا مهلًا.. صبرًا صبرًا؛ فلا يعنى ندمى على عصيانك، أننى مُقرٌّ بها أشد الإقرار، ومؤمنٌ بها أشدَ الإيمان، كما إنها لا تعنى أننى لو استقبلتُ من أمرى ما استدبرتُ لا اتخذتها طريقًا لى ودربًا فى الحياة، فلم يعد يتبقى منها الكثير.
ما دفعنى إلى الكتابة إليك، وأنت فى قبرك، يا سيد ميكافيللى، كلماتٌ مريرةٌ كتبَها السيد رجاء النقاش عن الصحافة، عندما وصفها بأنها: "مهنة بلا عُرف ولا تقاليد ولا مبادئ ولا أخلاقيات".
أصارحُك القولَ بأننى تذكرتك، يا سيد ميكافيللى، فى اللحظة التى طالعتْ عيناى فيها تلك الكلماتِ الموجعات من صحفى كبير وكاتب قدير وإنسان خلوق، يوصف بأنه "أستاذ جيله وعَلَمٌ من أعلام الصحافة والنقد والأدب".
أكتب إليك رسالتى، يا سيد ميكافيللى؛ مؤكدًا لك أنَّ كل من التزم بنظريتك الشيطانية: "الغاية تبرر الوسيلة" قد أدرك أهدافه وحقق طموحاته ووصل ونفذ، ولكنه فقد إنسانيته. أنت شخصيًا عندما تجلس مع نفسك تدرك أنك لست إنسانًا، ولكن صنفٌ آخر من المخلوقات!
نعم، ربما تكون نظريتك يا سيد ميكافيللى أفسدتْ أجيالًا وراء أجيال، ولكنها اختصرتْ الطريق أمام الكثيرين، من ذوى الضمائر الخربة، والقلوب الميتة، الذين يملأون الدنيا من حولنا كذبًا وتدليسًا وتزييفًا، فهم فقط المدينون لك بكل ما حققوه وأنجزوه فى حياتهم، فقد اتخذوك إلهًا من دون الله، أو نبيًا مُرسلًا، وتعاملوا مع كتابك "الأمير"، باعتباره كتابًا سماويًا، لا يأتيه الباطلُ من بين يديهِ ولا من خلفه.. أما فى الآخرة يا سيد ميكافيللي ويا كل ميكافيللي.. فعندَ اللهِ تجتمعُ الخصومُ.. وسوف تجدني في صدارة خصومك.