مراقد آل البيت ومشاهد الصحابة في حضن الإهمال (5)
في المقال السابق تحدثنا عن أزمة تدمير مقام سيدي القاسم الطيب، والد السيد يحيى الشبيه.. نفس العوامل، وذات المشكلات تهدد ضريح الابن العظيم سيدنا يحيى الشبيه، الذي كان سببًا في قدوم جيل كامل إلى مصر، بعد أن توسل إليه أحمد بن طولون لتشريف مصر، وقبل رضي الله عنه، وحضر مع الأسرة كاملة؛ أبيه، وأمه، وأخيه، وأختيه.
وعبد الله بن القاسم الطيب، أخو يحيى الشبيه، ومدفون معه بنفس المشهد.. وبالطبع إن مرقده يواجه الأزمة نفسها. أما أم كلثوم، وفاطمة العيناء، أختا السيد يحيى، رضي الله عنهم، مدفونتان في ضريحين قريبين.. والضريحان لا طاقة لهما بمقاومة السيول، ومن سوء حظنا أننا وجدنا مقام العيناء، مغلقًا.
مقام "أم كلثوم"
لكننا سعدنا كثيرًا بزيارة مقام أم كلثوم، لكن صدمتنا كانت شديدة؛ إذ يفتقر إلى أبسط الخدمات، حتى الإضاءة، فلا توجد به، تقريبًا، لمبات للإضاءة!! والمقام مستواه أقل بكثير من مستوى الشارع، أو الطريق، أمامه؛ مما يسمح باقتحام مياه الأمطار له، فضلًا عن الأتربة والقمامة!!
ولمن لا يعرف فإن السيدة أم كلثوم.. حفيدة الحسيـن وسـيدة العابدات، محرابها على شكل محارة تعتبر الأولى من نوعها فى العمارة الإسلامية.. وهى أم كلثوم بنت القاسم الطيب بن محمد المأمون بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الإمام الحسين، أي أنها من الفرع الحسيني في آل البيت، ومن فرط عشق المصريين لها فإنهم دللوها فاشتهرت بينهم باسم السيدة كلثم، وأحيانا كلثوم.
ولم تتشرف أرض مصر بالسيدة كلثم وحدها، بل كان الشرف مضاعفًا بوجود أسرتها: والدها ووالدتها وأخويها وأختها، ومشاهدهم فى تلك البقعة المباركة التي تقع بين مسجدي الإمامين الشافعي والليث بن سعد.
الأسرة الحسيبة الشريفة
والراجح في كتب المؤرخين الثقات أن هذه الأسرة الحسيبة الشريفة جاءت إلى مصر فى زمن حاكمها أحمد بن طولون (مؤسس الدولة الطولونية وحاكمها الأول بين 868 / 884 ميلادية)، فقد سمع ابن طولون عن كرامات وبركات يحيى بن القاسم، الذى اشتهر بلقب الشبيه لشدة شبهه بجده النبي صلى الله عليه، وآله، وسلم، فأرسل إليه يستقدمه إلى مصر.
تزوجت فى مصر وأنجبت عددا من الأولاد، أما زوجها فهو من أبناء عمومتها، السيد موسى بن إسماعيل بن موسى الكاظم.. مات كل أولادها فى حياتها، فلم يخلف أحد منهم ذرية، ويقال إن بعض أولادها مدفون معها فى ضريحها. كانت من الزاهدات العابدات، الصالحات الراجحات، وكانت صوامة قوامة، لا تلتفت لأهل الدنيا، وقبرها يستجاب فيه الدعاء.
سيدة العبادات
حجت ثلاثين حجة إلى بيت الله الحرام سيرا على الأقدام، وكان لها قدم صدق حتى أطلقوا عليها سيدة العابدات. وربما كان مشهدها هو الدليل الأهم الباقي من سيرتها وأثرها، وجاء ذكره في مرجعين مهمين هما: الجزء الثاني من موسوعة "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون" للدكتورة سعاد ماهر، و"التراث المعماري الفاطمي والأيوبي في مصر" للدكتور محمود درويش، والراجح أنها انتقلت إلى رحاب الله بعد سنوات غير بعيدة من رحيل والدها القاسم الطيب فى العام 261 هجرية، ودُفنت في مقبرة بسيطة بجوار أسرتها.
أما ضريحها القائم فقد أنُشئ فى زمن الخليفة الفاطمى الآمر بأحكام الله فى سنة 516 هجرية على أرجح الأقوال، حيث كلف الخليفة وزيره المأمون البطائحى بتجديد وترميم المشاهد التسعة الواقعة بين جبل المقطم والقرافة، وأولها مشهد السيدة زينب وآخرها مشهد السيدة كلثم، على أن يوضع على كل مشهد منها لوحا من الرخام عليه اسم صاحب الضريح وتاريخ تجديده. وعلى حد وصف المقريزي لمشهدها: "من المشاهد التي يتبرك الناس بزيارتها".
ومع تقادم الزمن ضرب الإهمال هذا المقام الطاهر للسيدة كلثم، فكاد –كما قالت الدكتورة سعاد ماهر بعد أن زارته وقرأت الفاتحة لصاحبته– أن يندثر، وهو ما يتطلب تدخلا عاجلا لإعادة تجديده وإعماره بما يتناسب مع مكانة سيدة العابدات.
مقام فاطمة العيناء
أما السيدة فاطمة العيناء، فعلى واجهة مقامها البيضاء تناثرت الأشعار التى تعرف زوارها بأصل ونسب السيدة فاطمة العيناء، والتى حصلت على هذا اللقب لتشابه عينيها بأعين جدتها السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله.
"بشرى لزائر قبرها... فلقد سما بمودة القربى إلى العلياء
فأنزل بساحتها وقف متضرعا ... واطلب من المولى قبول دعاءِ"
بهذه الأبيات إشارة إلى كرامات السيدة فاطمة العيناء التى يشاع عنها أن من يذهب إليها ويدعو الله لا يخرج خائب الرجاء، فى حين تفسر أبيات أخرى أسباب حصولها على لقبها.
يستقر المقام الكبير للسيدة فاطمة وسط العديد من المقابر والأضرحة، والمقامات بشارع عقبة بن نافع بمنطقة الإمام الشافعي، يعلو الواجهة لوح رخامى وضع أمام المقام كتب عليه نسبها الشريف فهى "فاطمة العيناء بنت القاسم الطيب بن محمد المأمون بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام على رضي الله عنهم جمیعا، وهي أخت السيدة أم كلثوم".
وكان المصريون يعظمون هذا المشهد لما رأوا من عظيم بركته. ولأعوام طويلة مضت كانت تفتح أبواب المقام أمام المحبين والزوار على يد خادم المقام، ومنذ وفاة الخادم، فإن أبناءه هم من ورثوا مفاتيح الأبواب ويفتحونها كل حين وحين، ولكن قلة من المريدين هم من يأتون لزيارة المقام من أماكن بعيدة، في حين تقتصر زيارته على أهالي المنطقة فقط الذين قد يقصدونها لقضاء بعض حاجاتهم ملتمسين منها البركة لمساعدتهم في قضاء هذه الأعمال.
السيدة فاطمة العيناء التي ترقد بمقابر قريش، خلف الإمام الليثي في شارع عقبة بن عامر فى المقطم بالقاهرة، كتب عنها الإمام الشافعي يقول: هذا مقام كريمة الآباء.. من لقبت يا صاحِ بالعيناء.
ونستكمل في مقال قادم إن شاء الله تعالى.