ماذا يحدث فى ماسبيرو؟!
منذ شهور.. اجتمع العدد الأكبر منهم أمام باب خمسة بمبنى ماسبيرو، معظم الحضور غير قادرين على الوقوف، وبعضهم لايزال بعافيته يحاول أن يسند من يجاوره بعد أن طالت الوقفة الاحتجاجية.. وجوههم معروفة للعامة فمنهم المخرج ومنهم المذيع ومنهم المحرر ومن بينهم نخبة شاركوا على مدار سنوات طوال في تشكيل الوجدان المصري والعربي عندما كانت لنا الريادة.
وهذا مبنى ماسبيرو الذي يقفون أمامه كان يوما من الأيام قلعتهم التي خدموا من خلالها وطنهم وقدموا للإنسانية أعمالا إذاعية وتليفزيونية جليلة لازلنا نجتر منها في زمن الجفاف الإبداعى.. سنوات العمر لم تضع هنا.. بل كانت تلك السنوات علامات وقامات في تاريخ مصر الإعلامي عندما سادت العامية المصرية والدراما المصرية والبرامج المصرية.. هنا كان التاريخ وهؤلاء صناعه.
خجلت من نفسي عندما ساقتنى أقدامى إلى مبنى ماسبيرو المحبب لدى ورأيت بأم عينى هذا الجمع الحاشد يقتات حقه.. نعم يقفون وتعلوا جباههم ملامح الذل وقد أكل منهم العمر وشابت رؤوسهم وانحنت ظهورهم وارتسمت تجاعيد الزمن على جباههم.. يطلبون حقا مشروعا دون أن يجدوا من ينصت إليهم أو يأخذ من أفواههم شكاوى كانت قديما قصصا إنسانية يصيغونها في قوالب فنية جذابة ليعلموا الناس في كل جنبات الوطن العربى.
هؤلاء قضوا أعمارهم بين دهاليز مبنى ماسبيرو العتيق وكانوا قديما علامات فارقة في تاريخنا الإعلامى، صاغوا أحلام الوطن وانتصاراته ونسجوا من أزماته أملا للأجيال وكانوا بذرة الغد المشرق دوما.. خرجوا على المعاش ولم يجدوا ما يساعدهم على العيش كبشر قاموا بواجباتهم تجاه بلادهم في أقسى الظروف وأصعب اللحظات.. خرجوا على المعاش فوضعتهم الحكومة على ناصية الإهمال والتشرد والإهانة.
يبحثون عن مستحقاتهم
الآف من الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم لأن أعمالهم كانت خلف الكاميرات يقفون اليوم ليطالبوا بمستحقات ابتنوا عليها أملا.. مستحقات وليست تبرعات.. حقوق وليست عطايا.. أموال دفعوها من أعمارهم وعرقهم والآن أصبحوا غير قادرين على استردادها.. خجلت لأن الذين يقفون أمامى الآن زملاء عملوا برسالة الكلمة وتركوا لنا أعمالا خالدة لازلنا نعود إليها لنتذكر زمن الكبار.. خجلت لأن هؤلاء كانوا في الماضى قبلة للمظلومين فألقى بهم الظلم ليصبحوا على عتبات بيتهم القديم ينتظرون الفرج.
وحتى تاريخه لا أعرف الإجابة عن السؤال الذي يطرحه زملائى في ماسبيرو: ماذا يعنى أن تقضى عمرك في خدمة الحكومة ثم تصبح خيلا غير مرغوب فيه؟ كيف تدفع ما عليك ولا تسترده عندما يحين الموعد وتصبح مجرد إنسان ينتظر لحظة النهاية؟! كيف تحول هؤلاء الى طابور ذليل، منكسر، محطم، لا يجد من يستمع إليه ولا يجد إجابة شافية في مطالباته بحقوقه التي دفعها والتزم بها وكيف يمكن للحكومة أن تمارس دور الخائن بامتياز ضد أبنائها؟!
خجلت وأعترف إنى "تهربت" بعيدا حتى لا يرانى أحدهم وقد أمضينا سنوات معا، كنا نراهم وهم منتصبو الهامة والقامة يقفون في أول الصف.. يعاركون من أجل الوطن.. حملوا أمانة الكلمة على مدار سنوات العمر فيكون جزاؤهم ذلة على باب ينكر وجودهم وتاريخهم وحقوقهم.
لا أنسى كيف رأيت وجها شاحبا تتمسك يديه المرتعشتان بباب حديدى ويتصبب العرق من جبينه وقد زينت رأسه قليل من شعيرات بيضاء لاتزال تحتفظ ببعض الحياة. كان المرتعش في وقفته مخرجا بديعا يقضى ساعات يومه بين استديوهات ماسبيرو التي يحفظها مربعا مربعا وقطعة قطعة، كان يصول ويجول واهما إنه يصنع تاريخا لأحفاده وأبنائه.. ها هو اليوم لا يجد مقعدا يلقى عليه بمتاعب السنين وأدوية الضغط والسكر التي استعار ثمنها انتظارا لمكافأة نهاية الخدمة، كان ظهره منحنيا، مائلا مثل حالنا اليوم.. نعم مال حالنا وانحنى بنكران الجميل.
مضيت إلى خارج المبنى وكل الصور تعذبنى، تزلزلنى، تقهرنى وتلقى بى في مساحات من الهم والغم والإحساس بالانكسار والذل ورغم مضى الأيام لايزال هذا الإحساس ينهش لحظات الهدوء في حياتى.. تحادثت إلى قيادات داخل مبنى ماسبيرو بأن الوضع غير الإنساني ينذر بخطر على الأداء المهنى داخل المبنى وأنه لابد وأن تبحث عن حلول تعيد للناس حقوقهم ومع ذلك استمر الوضع على ما هو عليه.
مضت الشهور منذ أن رأيت تلك الصور وصدر منذ أيام قليلة قرار من السيد حسين زين في إطار تنظيم العمل بمبنى ماسبيرو كما جرى التسويق له ويقضي قرار سيادته بوضع نظام للحضور والانصراف وبالطبع كانت النتيجة أصعب.
مع احتشاد الزملاء بأعداد كبيرة ومع عدم وجود أماكن تستوعب هذه الأعداد اندلعت احتجاجات تطالب بحقوق العاملين ب ماسبيرو وصرف العلاوات ومتأخرات المحالين على المعاش وجملة من المطالب الشرعية.. لم يستوعب القائمون على الأمر غضب العاملين وبثت رسالة إليهم عبر برامج فضائية تصدر من خارج ماسبيرو بأن السيد زين سيدرس تلك المطالب دون أن يتحرك بشكل عملى لوأد الفتنة وطمأنة المحتجين فكان أن استمرت المظاهرات لليوم الثالث على التوالي.
نرجوكم تحركوا لإحقاق الحق ووأد الفتنة وإعادة الهدوء والانضباط والعمل إلى واحد من أهم مؤسسات الدولة.