أهل السر والتصريف
سأل بنو إسرائيل نبيهم سيدنا موسى عليه السلام، أهناك من هو أعلم منك؟ فقال لا، ولم يرد الأمر لله أي أنه لم يقل، الله أعلم، وإنما أجابهم بتقديره على أنه لو كان هناك من هو أعلم منه في وقته لكان أحق بالنبوة والرسالة والتكليف، فعاتبه الله عز وجل وأوحى إليه أن من عبادي من هو أعلم منك فسأل موسى عنه وقال من هو يارب، صفه لي، فأوحى الله تعالى إليه وأخبره عنه ووصفه له بقوله عز وجل، (عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا).
وكان ذلك العبد هو سيدنا إيليا بن ملكان المعروف بــ الخضر عليه السلام، وهو من رجال الغيب وأهل السر، وهم من جند الله تعالى المكلفون منه بمهام في الأرض، فطلب موسى من الله أن يقابله، فقابله وكان ما كان بينهما وقد ورد ذكر ذلك في سورة الكهف، المهم أن في وصف الحق سبحانه لسيدنا الخضر عليه السلام، أشار سبحانه إلى ما خصه به وما منحه إياه وهي ثلاث منح وأوصاف وهي صفة العبودية وشرف نسبه الله إليه سبحانه فقال: "عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا"..
إشارة إلى مقام الخضر عليه السلام في العبودية وتحققه بها ومعلوم أن شرف العبودية وانتساب العبد إلى ربه ومولاه جل علاه شرف لا يرقى إليه شرف، ولقد أشار الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى هذا الشرف العظيم بقوله: "كفى لي فخرًا أن أكون لك عبدًا"، وكفى بي عزًا أن تكون لي ربًا: "أنت لي كما أحب فوفقني إلى ما تحب"..
عطاء الله
هذا عن الوصف الأول لسيدنا الخضر عليه السلام، أما عن الوصف الثاني والذي جاء في قول الله تعالى: "آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا"، إشارة إلى أن الله تعالى تجلى عليه بالرحمة فنظر إليه بعين العناية الإلهية ورزقه أنوار الهداية وجعله من أهل سره ومن أهل التصريف في الأرض وممن لهم مهام في الأرض تتعلق بالأمور الغيبة، هذا وأما عن الوصف الثالث له والذي جاء في قوله سبحانه: "عَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا".
فيه إشارة إلى أن لله عبادا اجتباهم واصطفاهم واختارهم واختصهم ومنحهم علومًا من لدنه سبحانه، قال عنها العارفون بالله، إنه علم القلوب وعلم الفيض الإلهي الذي يفيض به عز وجل على قلب خاصته من أهل محبته وولايته، وقالوا، هو علم الحقائق والرقائق والمعاني وهو علم قاصر على أهل ولايته سبحانه، وقالوا، هو علم من العلوم المكنونة والمخزونة التي كنها الله تعالى وغيبها عن عامة المؤمنين وخص بها خاصتهم وهم المتحققون بإيمانهم..
أي، الذين ارتقوا بالفضل الإلهي على أثر استقامتهم من إيمان الاعتقاد إلى إيمان الشهود وهم المشار إليهم بقوله عز وجل: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ"، هذا والعلم اللدني لا يحصل بالقراءة والاستماع وإنما يحصل من عين الكرم والجود الإلهي وليس ببذل المجهود، قول تعالى: "وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ"، ويقول سبحانه: "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ"، إذا هو علم يساق بالفضل من عين الكرم والجود الإلهي..
هذا ومعلوم أن عطاء الله وفضله المشار إليه في قوله تعالى، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ"، إشارة إلى أن العطاء إما يكون عطاءً كسبيًا يأتي على أثر بذل المجهود بالاجتهاد في أعمال العبادات والطاعات والبر والمعروف والإحسان والصبر على طاعة الله تعالى وعن معصيته سبحانه وعن ابتلائه مع الرضا بقضائه والتسليم له في قدره مع الشكر على نعمائه سبحانه، والأصل في ذلك التوفيق من الله، يقول جل علاه: "وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"..
ويقول عليه الصلاة والسلام: "اللهم لولا أنت"، أي لولا فضلك وتوفيقك، ما اهتدينا وما تصدقنا ولا صلينا، الخلاصة أن الله تعالى هو المقدر والموفق وهذا ما يسمى "العطاء الكسبي"، وأما المظهر الثاني من العطاء وهو العطاء الوهبي الذي يساق للعبد من عين الكرم والجود لا اجتهاد فيه وإنما هو منحة إلهية وعطاء رباني بمحض فضل من الله تعالى، وكلاهما يساق بالفضل، وفي الختام اللهم إجعل لنا حظًا ونصيبًا من هذا الفضل الذي تخص به من تشاء من عبادك.