لماذا ينقل القاضي إلى وظيفة أخرى؟
المشرع أجاز لرئيس مجلس الدولة إذ ما رأى في مسلك العضو اعوجاجـًا، حاد به عن سبيل الأصول والتقاليد القضائية بما يحُط من كرامة الوظيفة، ويزري منها، بحَيْثُ يستجمع لهُ أسباب فقد الثقة والاعتبار وهُما عُدة كُل قاض وأساس صلاحيته، إذا ما رأى رئيس مجلس الدولة ذلك أحال الْعضو إلى مجلس تأديب أعضاء مجلس الدولة مُنعقدًا بهيئة صلاحية، فإذا قامت أسباب عدم صلاحية العضو قرر المجلس إحالته إلى المعاش أو نقله إلى وظيفة غير قضائية.
وحسن السمعة وطيب الخصال هما من الصِّفات الْواجب توافُرها في كل موظف عام وهي أوجب في عضو الجهة القضائية إذ بدونهما لا تتوافر الثقة والطمأنينة في شخص العضو مما يؤثر تأثيرًا بالغـًا على المصلحة العامة وعلى الجهة التي ينتمي إليها، لذا يجب أن يسلُك في سلوكه ما يليق بكرامة وظيفته ويتناسب مع قدرها وعلو شأنها وسمو رسالتها ونظرة التوقير والاحترام التي يوليها النَّاس لمن يقوم بأعبائها.
وهو التزام لا يقتصر على ما يصدُر من العضو أثناء قيامه بأعباء وظيفته بل يمتد ويشمل ما يصدُر عنهُ من أفعال وتصرُفات خارج نطاق وظيفته فيلتزم بمستوى من السُّلوك يليق بكرامة الوظيفة بابتعاده عن مواطن الرِيب والشُّبهات وعما لا يليق بمثله من أفعال، وهذا شرط لا ينفك عن عضو الجهة القضائية بل يُلازمهُ دومـًا ما بقى قائمـًا بأعباء وظيفته بحيث إذا انتفت صلاحيته للاستمرار فيها تعيّن بقرار من مجلس الصلاحية إقصاؤه عنها سواء بإحالته إلى المعاش أو بنقله إلى وظيفة غير قضائية.
مجلس تأديب
ودعوى الصلاحية لا ترتبط لزومـا بواقعة مُعيّنة بل يقوم عمل مجلس تأديب أعضاء مجلس الدولة مُنعقدًا بهيئة صلاحية في جوهره على تقييم لحالة عضو المجلس في مجموعها من حيث صلاحيته للاستمرار في وظيفته القضائية، وبالتَّالي فإنَّ دعوى الصلاحية هي دعوى أهليَّة يُراعى عند الْفصل فيها الاعتداد بالعناصر الْمختلفة التي تتصل بهذا التقييم حتى ما كان منها مُتعلقـًا بحُقبة ماضية حتى ولو كانت الأسباب التي تؤدى لعدم صلاحيته سابقة على تعيينه بالجهة القضائية، مادامت الأفعال أو التَّصرُفات ثابتة في حقه وتنال من مكانة وسُمعة الْمنصب الْقضائي الذي عُيّن فيه ويجعل استمراره في هذا الْمنصب ماسـًا بالجهة القضائية التي ينتمي إليها.
ذلك أن الأمر الْمُعتبر في تقدير حالة عضو مجلس الدولة هو النَّهج الذي احتذاه ماضيًا وحاضرًا طريقـًا ثابتـًا في مظاهر سلوكه الْمُختلفة، ومن ثمَّ لا يتقيّد تقدير مجلس الصلاحية للْقيَم الإلتزام بفترة مُعيّنة دُون أخرى ولا بواقعة دُون غيرها، وإنما يُقلبُ الْبصرَ في الصُورة الْمُتكاملة لسُمعته وسيرته وما استقر في شأنها بطريق التَّواتُر ماضيـًا وحاضرًا.
وعمل القاضي لا يُقاس بغيره من العاملين المدنيين ولا هو يؤاخذ بالضَّوابط الْمعمول بها في شأن واجباتهمْ الْوظيفيَّة وإنما يتعيّن أن تكون مقاييس سلوكه أكثر صرامة وأشد حزمـًا، نأيـًا بالْعمل بالْجهة الْقضائيَّة عن أنْ تُحيطهُ الشُّبهات أو تكتنفهُ الشُّكوك والرِّيب التي تلقى بذاتها ظلالًا قاتمة على حيدته ونزاهته وتتضاءل معها أو تنعدم الثِّقة في الْقائمين عليه، مما يستوجب الحُكْم بانتفاء صلاحية عضو الهيئة القضائية للْقيام برسالته وإبعاده عن مُحيط الْعمل بالجهة القضائية وتنحيته عن الاستمرار في عمله إن هو تنكّب سبيله القويم وفقد شروط توليه أعباء الوظيفة وتحمُله تبعاته، وانزلق إلى أفعال كان ينبغي عليه أن يتجنبها صونـًا لهيبة الْجهة القضائية وتوكيدًا لسمو شانها وتوقيـًا للتَّعريض بها إذا لابستها عوامل تنتقص من كرامتها أو داخلتها الْمآخذ التي لا يطمئن معها إلى الالتزام بقيمها الرَّفيعة.
العمل القضائي
وعلى مجلس التأديب مُنعقدًا بهيئة صلاحية أن يقف على حقيقة الأمر في شأن صلاحية عضو المجلس للعمل القضائي، وهو ما يُفيد لزومـًا تقصيه لكُل واقعة جرى إسنادها إليه كي يُنزلها الْمنزلة التي تستحقها ويكون عقيدته في ضوء ما ينتهي إليه بشأنها ويتخذ قراره سواء برفض الدَّعْوَى أو بإبعاد الْعُضو عن مُحيط العمل القضائي، وفي كُل ذلك يتعيّن أن يكون هذا الْقرار مُشتملًا على الأسباب التي بُنى عليها كي يكون لهُ مأخذهُ من الأوراق وسنده السَّائغ من الْقَانُون.
والْقرار الصَّادر بالنَّقل إلى وظيفة غير قضائية هو قرار إداريّ يتعيّن أنْ يستقيم على أسبابه ويستوي على أصوله، ومن ثم فإن القضاء بسطـًا لرقابة الْمشروعيَّة وإعمالًا لسيادة الْقَانُون، يُبسط رقابته على ما ركن إليه قرار النَّقل من أسباب وتداعى إليه من مُبررات، والتي هي في ذات الْوقت أسباب قرار عدم الصلاحية فإنْ توافّرت الأسباب التي بُنى عليها صح الْقرار وإنْ جاء مُنتزعـًا من غير أصول تُنتجه واقعـًا أو قَانُونـًا أدركتهُ مُخالفة الْقَانُون وحق عليه الإلغاء.. وللحديث بقية