خزعبلات إعلام بلدنا
للأسف أن انعدام المهنية في تناول وتحليل الخبر، بات يشكل أخطر الآفات التي يعاني منها الإعلام خلال السنوات الأخيرة، لدرجة جعلت من التناول الخاطئ والخالي من الحقائق - والمقصود في كثير من الأحيان - للأخبار العادية، يحدث فزعا وارتباكا لدى القاريء، لا لشىء سوى لهثا وراء التريند وتحقيق أعلى القراءات، بصرف النظر عما تقتضية أمانة العرض، أو المردود السلبى على المجتمع.
فخلال الأسبوع الماضي، نشرت وزارة التجارة الصينية على موقعها الإلكتروني إعلانا دعت فيه الصينيين إلى تخزين كميات كافية من المنتجات الغذائية الأساسية لاحتمالات الطوارئ، وهو الخبر الذي نقلته كافة وسائل الإعلام نصا عن المصدر، وزيلته بتكهنات خزعبلية تحدثت حول كوارث اقتصادية وبيئية متوقعه تخفيها الحكومة الصينية عن العالم، في حين ذهب البعض إلى رسم واقع كارثى لظهور سلالات جديد من فيروس كورونا لا وجود لها على أرض الواقع، وحرب وشيكة مع تايوان، لدرجة أن حجم التجويد وصل بالبعض إلى تفسير الخبر على أنه مؤشر لاقتراب نهاية الحياة على كوكب الأرض.
وحتى نعلم مدى المأساة التي يعيشها الإعلام، والكارثة التى يحدثها التناول غير المهني للأخبار، فقد وجد جهابذة مواقع التواصل الاجتماعي في الخبر فرصة لإظهار مواهبهم كخبراء وعلماء من منازلهم، وراحوا يروجون عبر آلاف الصفحات لعالم أسود خلال الشهور القادمة، وأن الإعلان الصينى جاء كنتيجة مباشرة لحالة التضخم التى تسيطر على العالم فى الوقت الحالى، والتي ستؤدي طبقا لتحليلاتهم العبقرية إلى تتناقص عالمي حاد في السلع والمواد الخام، وارتفاع كارثي في الأسعار، وركود وإفلاس لكيانات اقتصادية عملاقة.
إثارة الذعر
وعلى الرغم من أن الحكومة المصرية ذاتها أعلنت أن ما يحدث فى العالم فى الوقت الحالى من إرتفاع في الأسعار قد لا يستمر لأكثر من 6 أشهر، ولا يستدعي اللجوء لمجلس النواب لطلب اعتماد إضافي على موازنة العام الحالى، إلا أن جهابذة مواقع التواصل الاجتماعي رأوا فى الخبر الذى تناوله الإعلام، فرصة لإثارة الذعر ودعوة المواطنين إلى تقنين إستخدام السلع والإنفاق، وتجنب الاقتراض والتعامل مع البنوك، لاحتمال فقد الملايين لأعمالهم، وغيرها من التحذيرات التى أصابت الملايين بالهلع.
الغريب فى الأمر، أن كل الوسائل الإعلامية استهوتها الإثارة وارتفاع عدد القراءات والصدى غير الطبيعي للخبر، دون أدنى التفات للتناول الطبيعي الخالي من أي تفسير للخبر في كافة وسائل الإعلام الصينية، بل والواقع الأقل من العادى للخبر على الصينيين، الذين لم يصطفوا بالآلاف داخل الأسواق للتكالب على شراء السلع كما توقع الجهابذة، بل سارت الأمور بشكلها الطبيعى للغاية وكأن حكومتهم لم تقل شيئا.
المؤسف أن أمانة المهنية فى مثل هذه الأخبار تقتضي ضرورة التواصل مع المتخصصين لاستضياح حقيقة الأمر، ونقل الصورة الكاملة والحقيقية للقارئ، إلا أن الجميع استهواهم نقل الخبر بمضمونه الغامض، أو التجويد بتحليلات خزعبلية، أو الاستعانة بمصادر بعيدة كل البعد عن الشأن الصيني زادت من رعب القارىء، على الرغم أن استيضاح الحقيقية لم يكن يتطلب أكثر مجرد اتصال تليفوني لأي مسئول في السفارة الصينية، ليضع الأمور في نصابها بعيدا عن حالة الإثارة والرعب والارتباك غير المبررة.
إعلان دوري
وحتى يعلم إعلام الإثارة مدى الجرم الذي يرتكبه بسبب الحرص على التريند على حساب المهنية، فإن ما نشرته وزارة التجارة الصينية لا يتعدى إعلانا روتينيا دوريا تنشره سنويا فى ذلك التوقيت من كل عام، لتذكير المواطنين بتخزين السلع الأساسية مع دخول فصل الشتاء، لتجنب الأزمات التي تحدثها الفيضانات فى المناطق الجنوبية من البلاد، وانخفاض درجة الحرارة بشكل كبير في أنحاء المدن الصينية.
أى أن الأمر لا علاقة له من قريب أو بعيد بأزمات اقتصادية أو بيئية متوقعة، أو إقتراب نهاية الكون، أو حتى التفسيرات الخاطئة عن واقع كورونا في الصين، التي قدمها جهابذة الإثارة فى صورة كارثة، فى حين أن حقيقتها لا تتعدى ظهور حالات لم تتجاوز الـ 200 إصابة محلية، تم اكتشافها مؤخرا فى عدد من المدن الصينية، غير أن السلطات التى أصبحت دراية أكبر بكيفية التعامل مع الفيروس، لم تتخذ قرارات بالإغلاق الشامل للمدن كما ذكر الجهابذة، بل لجئت إلى عزل البنايات التى ظهرت بداخلها الإصابات، دون أدنى تأثير على سير الحياة في كافة المدن الصينية.
للأسف أن الواقع المؤسف لأغلب وسائل الإعلام يؤكد يوميا أن الأغلبية العظمى من القائمين عليها فى حاجة إلى إعادة تأهيل وتعليم للقواعد الصحيحة والسامية للمهنية، والتي لا علاقة لها بإعلام الإثارة والجنس واللهث وراء التريند على حساب قيم وأمان المجتمع.. وكفى.