رفقا بفقراء مصر يا سادة
الفقر في مصر حقيقة لا ينكرها إلا جاحد أو متملق يريد الاسترزاق على حساب ملايين الأسر التي تعيش تحت خط الفقر، وتقر وتعترف الدولة بمعاناتها في تقارير منشورة ومعلنة، صادرة عن الجهاز الحكومي الأول المسئول عن الإحصاء في البلاد.. فخلال الأسبوع الماضي شهدت مصر ضجة غير مبررة، آثارها صحفيون وفنانون وبرلمانيون إعتراضا على الواقع المر الذي طرحه فيلم ريش الحاصل على الجائزة الكبرى لمسابقة أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي، لدرجة أن الأمر وصل إلى المطالبة بمناقشة مضمون الفيلم بالبرلمان ومحاكمة صناعه بحجة الإساءة لمصر.
وعلى الرغم من أن الفيلم يطرح واقعا مصريا موجود ومنتشر ومعتاد، ونشاهده يوميا لواقع آلاف بل ملايين من المصريات المكافحات، اللاتى اضطرتهن قسوة الفقر والحرص على ستر ابنائهن إلى الخروج للعمل بمهن بعضها شاق ومرهق للغاية، إلا أن البعض اتخذ من الفيلم وسيلة للمزايدة والتملق وكسب شو على حساب الفقراء تلك الفئة المطحونة، والإدعاء بأن هذا الواقع غير موجود ويسيء لمصر، على الرغم أنه يوجد بيننا من يعيش حياة أشد مرارة وقسوة مما طرحه الفيلم.
تقارير حكومية عن الفقر
ولعل ما يدعو للأسف أن كثيرا من الأصوات التي طالبت بمحاكمة صناع الفيلم من صحفيين وبرلمانيين وفنانين، جميعهم من الفئات التي من المفترض أنها الأقرب والأكثر ملامسة للواقع والتعبير عنه والمطالبة بتغييره، بل أن الأغلبية العظمى منهم لديهم أقارب وجيران وأصدقاء من تلك النماذج الكادحة، التي تعترف الدولة بوجودها.
وحتى لا نقع في خطيئة المزايدة والتملق على حساب الفقراء، فيكفي القول أن نتائج بحوث الدخل والإنفاق التي أجراها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء خلال الـ 20 عاما الأخيرة قد أكدت، أن معدلات الفقر فى مصر فى عام 1999 قد بلغت 16.7%، وارتفعت في عام 2004 إلى 19.6%، ثم قفزت فى عام 2008 إلى 21.6%، وزادت في عام 2010 إلى 25.2%.
كما تؤكد بيانات الجهاز الحكومي الأول المسئول عن الإحصاء في مصر أيضا، أن معدلات الفقر واصلت الصعود بعد يناير 2011، حيث وصلت في عام 2012 إلى 26.3%، ثم قفزت في عام 2015 إلى 27.8%، ثم سجلت 32.5 % في عام 2017 ثم انخفضت طبقا لتصريحات الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط في مايو الماضي إلى 29.7 % في 2019-2020 .
وحتى يتوارى المزايدون على واقع الفقراء، والمحتوى الأقل من الواقع بمراحل الذي عرضه فيلم ريش، فقد أكد جهاز الإحصاء على صحة الأرقام الماضية خلال ذكرى اليوم العالمي لمحاربة الفقر فى الأسبوع الماضى، بل واعترف بأن الفقر ليس هنا فى مصر فحسب، بل أن هناك أيضا فقر مدقع إلا أن الدولة تمكنت من الهبوط بمعدلاته من 6.2% في عام 2017-2018 إلى 4.5 في عام 2019-2020.
والفقراء المدقعون لمن لا يعرفهم من المزايدين، هم من لا يجدون قوت يومهم، وهم طبقا للبيانات المعلنة يزيد عددهم عن الـ 5 ملايين مصري، بل أن تقارير البنك الدولي قدرت في عام 2019 عدد الفقراء والمعرضون للفقر في مصر بنحو 60% من عدد السكان، وهم تحديدا من يقل دخلهم اليومي عن 1.9 دولار أي ما يعادل 28 جنيها يوميا.
مبادرة حياة كريمة
ألم يسمع السادة المزايدون على الفقراء عن مبادرة تسمى "تكافل وكرامة" قامت بها الدولة منذ عدة سنوات، تقدم بموجبها 500 جنيها شهريا لنحو 4 ملايين أسرة معدومة الدخل، تضم ما يقرب من 20 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر.
وألم يصل إلى علم السادة المتملقين أي من ملايين المناشدات التي أطلقها فقراء مصر طوال الأيام القليلة الماضية، لمطالبة وزير التعليم بعدم ربط صرف الكتب الدراسية لطلاب المدارس مع المصروفات المدرسية التي تقدر بـ 300 جنيها، وخروج الوزير ذاته ليعلن أن 14 مليون طالب عجزوا عن دفع المصروفات المدرسية.
ألم يقرأ أي من السادة الصحفيين والبرلمانيين والفنانين المعترضون على مضمون الفيلم، عن مبادرة تسمى "حياة كريمة" أطلقتها مؤسسة الرئاسة، لإنقاذ ملايين الفقراء في القرى والنجوع الذين مازالوا يعيشون حتى اليوم في منازل تفتقر للحد الأدنى من الآدمية ودون مياه أو صرف صحي، وإنه طبقا لتصريحات المسئول الأول عن المبادرة تستهدف نحو 55% من المصريين.
أعتقد أن في الصمت حكمة وعقل وحياء، والأولى بنا الصمت أو ترك الفقراء بما فيهم إن لم نطالب لهم بحياة كريمة، بدلا من الانزلاق لخطيئة المزايدة والتملق، على حساب ملايين يذوقون الأمرين لتوفير قوت يومهم، كفانا الله وإياكم مذلة الحاجة.. وكفى.