حانته تصعب على الكافر
في مملكة جبال الملح البعيدة، وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة، دخل رجل لا يؤمن بأي شي إلى إحدى الحانات، وطلب كأس نبيذ، لعله يحصل على بعض الدفء، غير أن صاحب الحانة، وكان رجلا طاعنا في السن، أخبره بأنه لا يبيع النبيذ، وأن كل ما عنده حكايات، فقط حكايات صغيرة تلائم ليالي الشتاء الطويلة.. وهنا شعر الرجل الذي لا يؤمن بأي شيء بالأسى على حال العجوز وحانته البائسة، فطلب منه أن يخبره بعض الحكايات مقابل قطعة لحم هي كل ما يملك، فراح العجوز يقص عليه ما أسعفته ذاكرته الواهنة به:
1
كلما مت داخل حلم في مناماتي أستيقظت لأجد نفسي شخصا جديدا في زمن مختلف، اليوم أنا سائق شاحنة في كاليفورنيا والعام ١٩٨٣، وبالأمس كنت صانع فخار في بغداد في العصر العباسي، وأول من أمس كنت ساقيا في حانة في تركيا وقت الحرب العالمية الثانية، وقبلها كنت صيادا في المكسيك في ستينات القرن العشرين.
الليلة سأخنق نفسي بيدي في الحلم، لعلي أعود إلى عصر شهريار فأقتله وأخطف شهرزاد كي تحكي لي ما حدث في الليلة الثانية بعد الألف.. تقول واحدة من جداتي المئة، فقد عشت داخل مئة شخصية حتى اليوم، تقول إن الرجل يمكنه أن يحيا في الزمن الذي يريد إذا مات في حلم قاصدا امرأة بعينها، شريطة أن ينجح في أن يجعلها تبادله الحب، وإنه إذا جرجرها للعشق، فإنه حتما سيظل في ذلك الزمن لنهاية عمره، وتعزو هي ذلك إلى أن الحياة الحقيقية ليست سوى امرأة عاشقة.
2
في كل يوم، وفي كل مدينة، هناك حانة صغيرة قديمة، حيث تجلس صبية وصبي، ماتت كلمة «أحبك» على شفتي أحدهما قبل أن تولد بلحظة..
3
الكتابة خمر الوحدة، فحين يشعر أحدهم بآلامها يظل يكتب ويكتب ويكتب حتى يسقط دون وعيه، وفي الصباح يستيقظ وبقايا صداع يلف رأسه، لكنه أبدا لا يتذكر سبب ذلك الوجع الذي يداهمه كل ليلة..
4
المرأة الممتلئة هي جرعة مضاعفة من الجمال، كأن تطلب كأس نبيذ سنجل فيكرمك الساقي بواحد دوبل..
5
تخونني ذاكرتي في كل شيء لكنها أبدا لا تخطئ ابتسامة أو نظرة أو صوت.. أتذكر حتى ابتسامات العابرين في الشوارع، تلك ابتسامة تشبه طفل يوزع الحلوى مجانا. أتذكر نظرات المتلهفين على أرصفة الوصول بمحطة القطار.. الأشواق في عيونهم طيور تسبقهم إلى حيث يجلس المسافر يتأمل العشب على جانبي الطريق من النافذة. أتذكر أصوات المكلومين، لحنا حزينا شجيا، وكأسا من خمر لا يسكر. هي أشياء لا تنسى.. هي بصمات غير قابلة للتزييف.
6
اليوم فقط منحت «حياة» بيتها الصغير حياة حقيقية، اشترت كلبا صغيرا من محل الحيوانات الأليفة المجاور، ليكون شريكها في السكن، وغرست بعض البذور في الأصيص المعلق خارج البلكونة، وأحضرت ثلاث نباتات ظل طويلة سيقانها كالبجع، وعلقت صور والديها الراحلين على الحائط بغرفة المعيشة، التي اشترت لها مزهرية بيضاء بنقوش زرقاء، ووضعت داخلها خمس زهرات برتقالية.. هي تحب اللون البرتقالي ولا تعرف السبب.
حكايات حياة
كما أنها اشترت أدوات جديدة للمطبخ، وأطباقا ملونة، وماكينة قهوة صغيرة، وصنعت رفوفا خشبية للكتب، ودهنت أحد الجدران بالأسود، ثم رسمت عليه بالطباشير الأبيض وجوه من الذاكرة لبعض الذين قابلتهم في الطريق صدفة.
اشترت «حياة» كتابا جديدا، وارتدت فستانا أحمر بذيل طويل، وجلست تسمع الموسيقى وتقرأ وتشرب قهوتها وتمضغ حبات من الفستق، وسهرت حتى غفت عينيها، فأرخت جسدها على الكنبة وحلمت بحديقة واسعة رأت فيها نفسها طفلة بشعر بني طويل يكاد يلامس الأرض إذ سكنت مكانها ويعانق السماء كلما ركضت وراء الفرشة بأجنحتها الشفافة.
وفي الحلم، وقفت «حياة» عند النبع، فملئت كفها وشربت حتى ارتوت، ثم سكبت على رأسها بعضا من الماء الذي تحول إلى حبات من الفضة رصعت الأرض، فجاء الناس يهرولون لجمعها وصنعوا منها أقراطا يتيزن بها بناتهم.
استيقظت «حياة»، فوجدت الكلب وقد كبر، وبزغت سيقان البذور في الأصيص، أما النبتات فتدلت أوراقها الخضراء، بينما غادرت الوجوه المرسومة بالطباشير ذلك الجدار، وتحولت إلى أناس من لحم ودم يسكنون البيت ويسهرون كل ليلة ليستمعوا إلى حكايات «حياة» التي منحتهم الحياة.