رجل يأكل الشوفان
قبل أسبوع، ضبطت جاري، وهو رجل على المعاش، يحاول التسلل خلسة إلى منزله.. نعم منزله أنا لم أخطئ التعبير ولم تخني اللغة، فقد كان متخفيا في كاب ونظارة سوداء وكوفية تغطي معظم وجهه، لكنني كشفته لأنه لم يغير «الأفرول» الذي يرتديه دوما حتى بعد أن تقاعد عن العمل قبل ثلاث سنوات.
ذلك الرجل الملثم (جاري يعني)، ظل واقفا قرب بيته، يراقب الحركة حوله، ولا أعلم لمَ يفعل ذلك وهو يعلم أن أحدا ليس بالداخل، فهو وحيد.. وحيد منذ ماتت زوجته قبل عشر سنوات، وسبقتها ابنتهما التي تزوجت وهاجرت إلى كندا بحثا عن حياة أفضل، حسب ما قالت له وقتها وهي تقسم إنها حتما ستزوره مرة أو اثنتين كل عام، وطبعا أنتم تعلمون أنها لم تفعل ولو مرة، حتى الخطابات التي كانت ترسلها له توقفت بعد مرور عام واحد منذ ذهبت، وكذا الاتصالات الهاتفية لم تدم سوى أشهر قليلة، بل إنه حين كان يحاول هو الاتصال بكندا كان يأتيه الرد بأن «هذا الرقم لم يعد موجودا بالخدمة»!
فكرت في أن أذهب إلى جاري هذا وأفهم منه ما يحدث، ولماذا يراقب بيته، غير أنني قلت لنفسي لأنتظر قليلا كي لا أفسد على الرجل ما يخطط له، وإن احتاج الأمر تدخلي فأنا مستعد.
لنحو ربع ساعة، وقفت أراقب ذلك الرجل الذي يراقب ما أجهله، وفجأة وجدته يضع شيئا أمام باب بيته، ثم يتخطاه ليدخل البيت!
دخل جاري بيته، وغاب، فاقتربت بفضولي لأتفقد ذلك الشيء الذي تركه أمام الباب، وبعدما تأكدت من عدم وجود الرجل خلف العين السحرية، فتحت علبة متوسطة الحجم، فوجدت ثلاث قطع من الكعك، ذلك الذي نعرفه باسم «الدونتس»، وهنا تذكرت أن هذا النوع هو المفضل لدى جاري وزوجته وابنته، إذ يصح أن نطلق على ثلاثتهم أنهم من «مدمني الدونتس».. لكن لماذا وضع العلبة أمام الباب؟
تصرفات غريبة
فكرت في أن أطرق الباب وأعطيه العلبة، فربما قد أصاب الرجل بعضا من الخرف ونسيها، لكنني أعلم أن ذاكرته حديدية، وبالأمس فقط كان يحكيلي ذكريات وتفاصيل لا يمكن لصاحب ذاكرة عادية أن يذكرها.
تراجعت، ووقفت في الجوار أراقب الموقف، لعلني أجد شيئا يفسر الأمر ويخرس فضولي، وبعد مرور نحو ساعة لاحظت الباب ينفتح، ومن خلفه يخرج جاري الذي تعثرت قدمه بالعلبة، فأبدى دهشة كبيرة وتعجب، ثم مال يلتقطها، وحين فتحها احمر وجهه من الفرحة ووضع يده على فمه غير مصدق.. لقد تفاجئ جاري بالهدية.. الهدية التي وضعها هو على باب منزله قبل ساعة. ما لهذا الرجل؟ هل جن؟
الكثير من الأسئلة جالت في رأسي، قبل أن ألملم خيوط فضولي الذي لم ينكمش، بل زاد و«انتفش» رغبة في معرفة سر ما يفعله الرجل، فإن كنت قد علمت ما بداخل العلبة، فإنني لم أعلم بعد ما السر وراء تلك الدهشة التي اعترته حين وجد «فجأة» ما سبق وأن وضعه هو بنفسه أمام بيته.
خلال ذلك الأسبوع أخذت إجازة من عملي، وتفرغت لمراقبة جاري، فرأيته عند بائع الصحف يشتري مجلة ثقافية مغلفة بغلاف شفاف يضم إلى جوارها كتابا، والغريب أنني لم أعهد في جاري هذا حبه للثقافة أو القراءة، ومع ذلك رأيت وجهه مخضب بالفرحة وهو يخرج الكتاب ويضمه إلى صدره كمراهقة أهداها حبيبها وردة حمراء.
وفي المتجر، وبينما كنت أراقبه، رأيت الجار وهو يشتري ثلاث عبوات شوفان كبيرة، تكفي أسرة كبيرة لشهر مثلا، وهو ما يعني أنها ستكفيه هو وحده لأكثر من أربعة أشهر.. لكن انتظروا، فهو أصلا لا يأكل الشوفان إذ أنه مصاب بحساسية تتسبب في طفح جلدي يخضب بشرته إذا أكل ولو ملعقة واحدة منه!!
ذهبت إلى الرف الذي يوجد عليه الشوفان، فوجدته «عرضا».. «اشتر ثلاث عبوات بسعر عبوتين فقط».
ألهذا السبب اشترى جاري الشوفان؟ فقط لأن هناك عبوة مجانية؟ لكن ما فائدة الشيء المجاني إن كنت لا أحبه ولا أستخدمه؟! هذا الرجل بات مريبا..
مواجهة جاري
لأيام تتبعت جاري المريب، فلاحظت مثلا أنه يقطع بضعة أميال للذهاب إلى فرع شركة الاتصالات ليحصل على ميدالة خشبية «هدية» لا يتعد ثمنها جنيهات قليلة بينما هو من مشتركي باقة اتصالات تكلفه مئات الجنيهات شهريا، وهو أصلا لا يحتاج إليها، ففيها من الدقائق الآلاف بينما هو لا يهاتف أحدا، كما أنها تمنحه اشتراكا مجانيا في إحدى منصات البث التدفقي، بينما هو لا يهوى مشاهدة الأفلام والمسلسلات!
وفي مرة أخرى، ضبطت جاري يقف في طابور طويل ليحصل على قطعة جبن صغيرة مشبوكة في طرف خلة أسنان، كنوع من الدعاية لمحل ألبان افتتح حديثا في الجوار.. وفي مرة أخرى صادفته يقامر بأمواله في لعبة مخصصة للأطفال يحصل الفائز فيها على دمية رخيصة.. وكثير من مثل هذه المواقف، التي جعلتني أتأكد من أن الرجل قد اصابته لوثة.
وعلى هذا الحال، رأيت جاري يلهث وراء الهدايا المجانية، هنا وهناك وينفق من أجلها الكثير من الأموال، رغم أنها لا تساوي واحد على مئة مما يدفعه!
واليوم، واجهته بكل شيء، عريت فضولي أمامه كرياضي يستعرض عضلات بطنه أمام مجموعة من الحسان.. سألته عما يعتمل في صدري، صارحته بشكوكي في قواه العقلية، فتبسم الرجل ثم مضى في طريقه بينما سقطت منه «نوتة» صغيرة وحين التقطها سارعت ألاحقه لأعيدها له، لكنه كان قد اختفى، ولم أقاوم فضولي في مطالعة ما خطه فيها، فرحت أقرأ..
«حبيبتي، اليوم وجدت الهدية التي وضعتها أنتِ أمام باب المنزل.. لا يمكن للكلمات أن تخبرك مدى سعادتي.. عشر سنوات وأنت ترسلي لي ولأمك الكثير من الهدايا.. صدقيني إن قلت لك إنني في كل مرة أرغب فيها أن أطلب منك التوقف عن إرسال المزيد أجد شيئا خفيا يمنعني من ذلك، فهداياك هي الشيء الوحيد الذي أحيا من أجله.. لكن على كل حال أريد أن اذكرك بأنني لا أحب الشوفان، كما أنني لا أهوى القراءة.. أعرف أنك بالفعل تعلمين ذلك، وأعلم أن أمك تحب الشوفان والقراءة لكنها منذ سافرتِ لا تقرأ ولا تأكل الشوفان.. لكن لا داعي للغضب فقدت أحضرت الكثير من دواء الحساسية وها أنا آكل الشوفان».