أعراض الغفلة العامة.. أفراح وجنازات!
كان لرحيل ثنائي البهجة والرقى، سمير غانم وزوجته دلال عبد العزيز، أثر مؤلم عميق فى صدور المصريين الأسوياء. فبيننا الآن عدد لا بأس به غير الأسوياء. وربط الناس بين رحيل دلال عبد العزيز الرقيقة الطيبة، لتلحق بزوجها ربط المحب لحبيبه.. وإذا كان ثمة عزاء فى الرحيل بالمرض الوبائي المفجع لنا كلنا، فهو أن الناس تنفسوا وعبروا عن شيء من الإنسانية، ومن التعاطف ومن الأسى، ومن الرومانسية حتى فى أحلك ساعات المرض والرحيل. تصدق مشاعرنا وتتكشف بلا مواربة، بل تتدفق من صدورنا فيضا صادقا فى حضرة الموت والدفن لمن نحب.. ومن عشنا نتنفسه.
لكن.. طرأ على المجتمع هوس الموبايل والنت والتصوير.. وعرف المصريون تصوير سرادقات العزاء والمواساة، وصوروا نقل النعش.. ربما يفعلون ذلك محترفين أو غير محترفين، باكين دامعين أو اصطنعوا الحزن والتأثر. هذه الظاهرة المقيتة عمرها الآن من عمر التوسع التقنى في صناعة كاميرات الفيديو.. انتقلت من تصوير الأفراح إلى تصوير الأموات.
وأنت في سرادق العزاء والشيخ يقرأ القرآن ويجلجل، سترى رؤوسا كثيرة مطرقة.. ليس استغراقا في المعاني وحلاوة الصوت، أو اعتبارا لآيات الله الكريمة، بل تصفحا لصفحات التواصل والتواصم الاجتماعي. ما بين إعجاب وسباب. وإذا ضاق المرء وأصابه الملل، مال على جاره المعزى وتبادلا أطراف الحديث.. ولو كانت بينهما معرفة أو عمل، ناقشا وتدبرا وتفاعلا.. وفي الخلفية قرآن الله على لسان المقرئ المسكين !
الزجر الاجتماعي
لم نعد نحترم المناسبات الجلل. نستهين كما استهان نفر من منسوبي المهنة بالموقف المحزن وقت دفن الراحلة العزيزة دلال عبد العزيز. ماذا في المقبرة يجتذب التصوير. ماذا في جثمان يوسد الثرى ويتغطى بالألواح. مشهد تكرر ملايين المرات في حياة كل أدمى وجها لوجه بحكم وفيات في حياة كل منا.. إذن لماذا الهوس بتوثيق كل جزئية في حياتنا أو مماتنا.. فعل الفراعنة ذلك ليتركوا لنا تاريخهم وتفاصيل حياتهم. لا كان عندهم كاميرا ولا مطبعة ولا أحبار ولا ورق. كان لديهم حجر وأزميل.. وذوق.
نحتاج بالفعل إلى تفسير ظاهرة الاستهانة.. والتقليل من القيم، والأخطر قلب المواقف وتبريرها.. انتشار الظاهرة سببه غياب الزجر الاجتماعي.. لأن القائم بعملية النهى والزجر والتوجيه، وهو وسائل الإعلام، ضالع هو نفسه فى ارتكاب النقيصة التى نرتكبها جميعا ونشكو منها جميعا. تتبارى الفضائيات والمواقع، في تحفيز المواطن العادي على التصوير وإرسال فيديوهاته إليها. بغض النظر عن المحتوى، وجودته، ودقته، أو صلاحية بثه إنسانيا ومهنيا.
على المجتمع أن يراجع نفسه.. وإذا كنا في حالة إدمان جماعي، مستعبدين بهذا الملعون الذي لا غنى عنه، فمن الواجب تنظيم حملة تدعو إلى إعادة العقل والرشد للمجتمع.. ولن يكون ذلك إلا بإعادة تأهيل مهنة الإعلام والقائمين عليها. الإعلام المهنى الناجح يقنع ويحرك ويصوب. الإعلام المتردى.. قدوة فشل مؤكدة. صححوا الإعلام.. واختاروا قيادات مهنية محترفة ماهرة دارسة.. يستيقظ المصريون من غفلتهم.. العامة.. ولن يكون ذلك بمعزل عن الارتقاء بالفن.. يخلق الذوق والحساسية ويزيل الجلد السميك الذى نتغطى به الآن !