حكايات الست ماري (9)
بالأمس زارتني الست
ماري في غرفتي، ولم تأت طبعا و«إيدها فاضية»، فقد حملت إلى طبقا به بعضا من الكعك الذي
صنعته لي بمناسبة العيد.
لم يكن كعكا يشبه ذلك الذي آكله منذ كنت طفلا، فطعمه يشبه البسبوسة لكن عجينته أكثر هشاشة وسكره خفيف ما جعلني ألتهم الطبق كله مرة واحدة مع كوبين من الشاي بلبن.
واليوم نزلت إلى شقتها، وإن كنت أفضل أن اسميه بيتا كما سبق وأخبرتكم، فوجدت لديها ضيوفا كثر.. رجال يرتدون البدل السوداء، ورجل واحد بجلباب بلدي واسع الأكمام.
حكاية الخواجة ديفيد
كان الباب مفتوحا، وحين لمحتني الست ماري، أشارت لي بالدخول، وحين ترددت نادت علي بصوت عال، فدخلت وألقيت السلام، لكن أحدا من الحضور لم يرد.. فقط هي أشارت لي بالجلوس، فجلست. قال أحد الرجال: «يا ماري هانم إذا كان المبلغ المعروض عليك لا يرضيك قولي وسنضاعفه لك ضعيفن أو ثلاث.. فقط أؤمري».
تبسمت الست ماري، وسط دهشة الحضور، خاصة الرجل بالجلباب البلدي، الذي راح يجود ويضيف: «والله عداك العيب يا خواجة.. هيا يا ست ماري أسمعينا كلمة حلوة.. لا تكسري بخاطر هؤلاء الناس الطيبين، فكل سكان العمارة مضوا وتمت ترضيتهم بأقل مما عرض عليك».
«تشرب قهوة؟»، هكذا سألتني الست ماري وكأن لا أحد غيري في بيتها، ثم قامت فدخلت المطبخ لتأتي بالسبرتاية، بينما وقف الجميع والغضب يكسو وجوههم، ثم انصرفوا وهم يبرطمون بكلمات أظنها شيء يشبه التهديد.
عادت الست ماري وفي يدها عدة القهوة، فلما وجدت الدهشة تغلف ملامح وجهي، ضحكت وقالت دون سؤال مني: «لا تشغل بالك».
أعدت لي الست ماري فنجان القهوة المعتبر، ثم دخلت المطبخ فغسلت الكنكة وعادت لتصنع لنسفها فنجانا، وهي تقول: «القهوة لا تصنع إلا في كنكة نظيفة حتى وإن كان ما فيها بقايا بن من فنجان آخر لم يبرد بعد».
لاحظت الست ماري إصراري، غير المعلن، على معرفة سر هؤلاء الناس الذين كانوا هنا قبل قليل، فأرادت أن تطفئ نار فضولي، فأخذت تحكي وهي ترتشف من فنجانها بمزاج عال: «ديفيد هذا ومن معه أصحاب شركة عقارات، اشتروا عدد من المباني في وسط البلد بغرض تحويلها إلى مقار إدارية لشركات.. لقد نجحوا في إقناع كل سكان العمارة كي يخلوا الشقق مقابل ثمن خيالي».
البيوت مثل أصحابها
دون تردد سألتها عن سبب رفضها بيع الشقة إذا كانت تعرف أن السعر المعروض عليها يفوق ثمن الشقة بكثير، وهو ما يعني أنه يمكن لها أن تشتري شقة أخرى أكبر في كمبوند أو إحدى المدن الجديدة، بعيدا عن زحام القاهرة، غير أنها نظرت لي في حدة دون أن تنطق كلمة، فقلت: «ماذا حدث.. هل في كلامي ما يزعجك؟»، فأدارت الست ماري لي ظهرها، وكأنها طفلة.
بعد محايلات استغرقت نصف ساعة، قالت الست ماري في غضب ممزوج بعشم: «كنت أظنك تفهمني وتعرفني جيدا، لكنك خيبت ظني.. يا بني أنا امرأة في السبعين ولا اعتقد أنني سأعيش أكثر من ذلك، صحيح أن الأعمار بيد الله كما نقول لكن لم يعد في العمر بقية.. فهل لو كنت مكاني تترك المكان الذي عشت فيه معظم سنوات عمرك مقابل شقة في مدينة جديدة وحفنة من الورق!».
«وهل معنى ذلك أنك لو كنت أصغر سنا، كنت وافقت على البيع؟»، هكذا سألتها، فردت: «ولو كنت صبية لم يكن رأيي ليتغير.. يا بني هذا البيت ليس مجرد شقة أعيش فيها، بل تاريخ.. تاريخي أنا وعائلتي، كل حائط هنا شاهد على جزء من حياتي.. هذه الأرض حملتني سنوات وسنوات.. ذلك السقف حماني وسترني منذ وعيت على الدنيا.. النوافذ والأبواب ليست مجرد قطع من الخشب، بل نوافذ على الدنيا وشرايين تصل بيني وبين الحياة.. الهواء المعلق في جو المكان مازال محملا برائحة زوجي وأبنائي.. ترى بكم أبيع كل ذلك؟!».
قبل أن تنتهي الست ماري من كلامها، سقطت قطعة من السقف، فنظرت لها وفي عيني كلام لم ينطق به لساني، غير أنها كعادتها جاوبتني دون سؤال: «هذ الذي يسقط أمامك جزء مني، فالبيوت مثل أصحابها تشيخ لكنها لا تموت، ولهذا فنحن نرمم المنازل، فإذا متنا بقيت هي لأبنائنا ولتحكي قصتنا لمن يسكن فيها بعدنا».
لم يكن كعكا يشبه ذلك الذي آكله منذ كنت طفلا، فطعمه يشبه البسبوسة لكن عجينته أكثر هشاشة وسكره خفيف ما جعلني ألتهم الطبق كله مرة واحدة مع كوبين من الشاي بلبن.
واليوم نزلت إلى شقتها، وإن كنت أفضل أن اسميه بيتا كما سبق وأخبرتكم، فوجدت لديها ضيوفا كثر.. رجال يرتدون البدل السوداء، ورجل واحد بجلباب بلدي واسع الأكمام.
حكاية الخواجة ديفيد
كان الباب مفتوحا، وحين لمحتني الست ماري، أشارت لي بالدخول، وحين ترددت نادت علي بصوت عال، فدخلت وألقيت السلام، لكن أحدا من الحضور لم يرد.. فقط هي أشارت لي بالجلوس، فجلست. قال أحد الرجال: «يا ماري هانم إذا كان المبلغ المعروض عليك لا يرضيك قولي وسنضاعفه لك ضعيفن أو ثلاث.. فقط أؤمري».
تبسمت الست ماري، وسط دهشة الحضور، خاصة الرجل بالجلباب البلدي، الذي راح يجود ويضيف: «والله عداك العيب يا خواجة.. هيا يا ست ماري أسمعينا كلمة حلوة.. لا تكسري بخاطر هؤلاء الناس الطيبين، فكل سكان العمارة مضوا وتمت ترضيتهم بأقل مما عرض عليك».
«تشرب قهوة؟»، هكذا سألتني الست ماري وكأن لا أحد غيري في بيتها، ثم قامت فدخلت المطبخ لتأتي بالسبرتاية، بينما وقف الجميع والغضب يكسو وجوههم، ثم انصرفوا وهم يبرطمون بكلمات أظنها شيء يشبه التهديد.
عادت الست ماري وفي يدها عدة القهوة، فلما وجدت الدهشة تغلف ملامح وجهي، ضحكت وقالت دون سؤال مني: «لا تشغل بالك».
أعدت لي الست ماري فنجان القهوة المعتبر، ثم دخلت المطبخ فغسلت الكنكة وعادت لتصنع لنسفها فنجانا، وهي تقول: «القهوة لا تصنع إلا في كنكة نظيفة حتى وإن كان ما فيها بقايا بن من فنجان آخر لم يبرد بعد».
لاحظت الست ماري إصراري، غير المعلن، على معرفة سر هؤلاء الناس الذين كانوا هنا قبل قليل، فأرادت أن تطفئ نار فضولي، فأخذت تحكي وهي ترتشف من فنجانها بمزاج عال: «ديفيد هذا ومن معه أصحاب شركة عقارات، اشتروا عدد من المباني في وسط البلد بغرض تحويلها إلى مقار إدارية لشركات.. لقد نجحوا في إقناع كل سكان العمارة كي يخلوا الشقق مقابل ثمن خيالي».
البيوت مثل أصحابها
دون تردد سألتها عن سبب رفضها بيع الشقة إذا كانت تعرف أن السعر المعروض عليها يفوق ثمن الشقة بكثير، وهو ما يعني أنه يمكن لها أن تشتري شقة أخرى أكبر في كمبوند أو إحدى المدن الجديدة، بعيدا عن زحام القاهرة، غير أنها نظرت لي في حدة دون أن تنطق كلمة، فقلت: «ماذا حدث.. هل في كلامي ما يزعجك؟»، فأدارت الست ماري لي ظهرها، وكأنها طفلة.
بعد محايلات استغرقت نصف ساعة، قالت الست ماري في غضب ممزوج بعشم: «كنت أظنك تفهمني وتعرفني جيدا، لكنك خيبت ظني.. يا بني أنا امرأة في السبعين ولا اعتقد أنني سأعيش أكثر من ذلك، صحيح أن الأعمار بيد الله كما نقول لكن لم يعد في العمر بقية.. فهل لو كنت مكاني تترك المكان الذي عشت فيه معظم سنوات عمرك مقابل شقة في مدينة جديدة وحفنة من الورق!».
«وهل معنى ذلك أنك لو كنت أصغر سنا، كنت وافقت على البيع؟»، هكذا سألتها، فردت: «ولو كنت صبية لم يكن رأيي ليتغير.. يا بني هذا البيت ليس مجرد شقة أعيش فيها، بل تاريخ.. تاريخي أنا وعائلتي، كل حائط هنا شاهد على جزء من حياتي.. هذه الأرض حملتني سنوات وسنوات.. ذلك السقف حماني وسترني منذ وعيت على الدنيا.. النوافذ والأبواب ليست مجرد قطع من الخشب، بل نوافذ على الدنيا وشرايين تصل بيني وبين الحياة.. الهواء المعلق في جو المكان مازال محملا برائحة زوجي وأبنائي.. ترى بكم أبيع كل ذلك؟!».
قبل أن تنتهي الست ماري من كلامها، سقطت قطعة من السقف، فنظرت لها وفي عيني كلام لم ينطق به لساني، غير أنها كعادتها جاوبتني دون سؤال: «هذ الذي يسقط أمامك جزء مني، فالبيوت مثل أصحابها تشيخ لكنها لا تموت، ولهذا فنحن نرمم المنازل، فإذا متنا بقيت هي لأبنائنا ولتحكي قصتنا لمن يسكن فيها بعدنا».