حكايات الست ماري (4)
تحتفظ الست ماري
في دولاب ملابسها بصندوق صغير يحوي أوراقا قديمة، بعضها خطابات غرامية وبعضها
قصصات من مذكرات جدها.
واليوم حين ذهبت لزيارتها كي أحصل على فنجان القهوة المعتاد، وضعت بين يدي الصندوق، وذهبت إلى المطبخ كي تحضر السبرتاية وعدة القهوة، فدفعني الفضول لفتح الصندوق واستكشاف كنوزه.
من بين الأورق، وجدت ظرفا أصفر اللون داخله ورقة مطوية، وحين فتحتها استوقفتني هذه السطور:
«خارج بلدتنا الصغيرة بيت يسكنه رجل عجوز، اعتاد أن يقدم لنا الحلوى ونحن صغار، لكنه أبدا لم يسمح لأي منا أن يدخل بيته.
فضول
وقد دفعني الفضول إلى مراقبته من خلال نافذة صغيرة تطل على صالة فسيحة داخل المنزل تضم مدفئة وكرسيا من الخشب العتيق، حيث يجلس العجوز وهو ينظر إلى ألسنة اللهب المتراقصة، بينما يقضم شيئا يشبه الحلوى، حمراء اللون تغوص في شراب أحمر، داخل كأس زجاجي مغبش.
كم تمنيت لو أتذوق قطعة من تلك الحلوة، رغم أنه كان ينتشلها بأصابعه من الكأس، ثم يدسها في فمه ويلوكها لثوان قبل أن يبتلعها بصعوبة، ثم يرشف بعضا من الشراب الأحمر.
أتذكر تلك المرة التي حاولنا فيها التسلل إلى البيت القديم، فثار العجوز وصرخ فينا قبل أن نخطوا قدما واحدة إلى الداخل، ففررنا والرعب يسابقنا. وبعد أن أنهيت دراستي الإعدادية سافرت مع والداي إلى مدينة بعيدة، لكن فضولي لازمني كظلي، إلى أن انتهت السنة الثانية من المرحلة الثانوية، حيث ماتت جدتي فاصطحبني أبي إلى البلدة لندفنها.
انتهينا من دفن الجدة في المقابر التي لا تبعد عن بيت العجوز كثيرا، ففكرت في أن أغامر وأذهب إلى ذلك البيت لأرى الرجل، الذي بات اليوم على مشارف الثمانين من عمره.
نظرت من النافذة الصغيرة، فوجدت الكرسي القديم يهتز رغم أن العجوز لم يكن يجلس عليه، ورأيت على المنضدة الصغيرة ذلك الكأس الذي لا يفرغ أبدا من الحلوى والشراب الأحمر، فضلا عن تلك النيران المشتعلة دوما في المدفئة.
قلب طفلة
تسللت إلى داخل البيت، وأمسكت الكأس ثم ممدت يدي لأخرج قطعة حلوة، فوجدتها لينة مثل قطعة لحم، فقلت في نفسي ربما لأنها داخل ذلك الشراب فهي لينة، لكنني وقبل أن أخرج الحلوى، سمعت صرير الباب، فاسرعت أختبئ خلف خزانة خشبية في أحد أركان الصالة.
دخل العجوز وهو يحمل جوالا أنزله على الأرض، ثم رأيت منظرا لا يمكنني نسيانه ما حييت.. إنها فتاة صغيرة فاقدة للوعي!!
ألقى الرجل بها على الأرض، فاستفاقت وأخذت تصرخ وهي ترجف، بينما مزق هو ملابسها من عند الصدر ثم أخرج منجلا حادا وهم بشق صدرها، فقمت من مكاني وأنا اصرخ فيه، ورحت لأخلص المسكينة من بين يديه، لكنه سرعان ما تحول من رجل عجوز إلى هيئة طفل عملاق يصرخ كثور هائج، وقبل أن استوعب ما حدث ضربني على رأسي بالمنجل فأفقدني وعيي.
ما بين فقدان الوعي وبداية الانتباه، رأيت العجوز الذي صار طفلا عملاقا يقتلع بيديه قلب الطفلة، ويقطعه بالمنجل إلى قطع صغيرة يملأ بها الكأس، ثم يصب عليها بعضا من دماء فريسته، ثم أخذ جثتها وألقى بها إلى النار في المدفئة، وأخذ يتأرجح على كرسيه وهو يتناول تلك القطع التي كنت أظنها طيلة أعوام طفولتي حلوى!!
خطاب
استعدت وعيي تماما، بينما عاد الطفل العملاق إلى صورته كعجوز بطيء الحركة، إذ أنه قطع المسافة ما بين الكرسي والخزانة الخشبية في دقائق ليست قليلة، ففتحها وأخرج منها صندوقا صغيرا، وضعه أمامي مفتوحا، فأخرجت منه بيدي المرتعشة ما به من أوراق هي خطابات قديمة مكتوبة على ورق مهترئ، ويبدو أن الأنامل اليت كتبتها تعود ليد طفل صغير ويظهر ذلك في الخط المتكسر والحروف الكبيرة والأخطاء الإملائية التي لم تعق فهمي للكلام المكتوب.
في أحد الخطابات قرأت: هذا هو خطابي العاشر لك.. كالعادة أنت لا تنظرين إلي منذ أخبرتك أنني أحبك.. أحاول كثيرا أن أنسى ابتسامتك الساخرة التي رأيتها على شفتيك حينها، لكنني في كل مرة أفشل.. أعرف أنك لا تحبين أسناني المتآكلة ولا شعري الأجعد.. أخبرت جدي بما فعلته معي فقال لي إنك فتاة بلا قلب.. تماما مثل أبي وأمي الذين هجراني قبل سنوات..
عزيزتي أنا أكرهك وأكرهما.. كل ليلة وقبل أن أنام أتخيل جوفك الفارغ من القلب واسأل كيف تعيشين بلا قلب.. يوما ما سأشق صدرك لأرى ماذا يوجد داخله مكان القلب».
لم تغب الست ماري سوى لحظات مرت علي سنوات وسنوات، وقالت وابتسامة واسعة تكسو وجهها: «تلك سطور من مذكرات جدي».
واليوم حين ذهبت لزيارتها كي أحصل على فنجان القهوة المعتاد، وضعت بين يدي الصندوق، وذهبت إلى المطبخ كي تحضر السبرتاية وعدة القهوة، فدفعني الفضول لفتح الصندوق واستكشاف كنوزه.
من بين الأورق، وجدت ظرفا أصفر اللون داخله ورقة مطوية، وحين فتحتها استوقفتني هذه السطور:
«خارج بلدتنا الصغيرة بيت يسكنه رجل عجوز، اعتاد أن يقدم لنا الحلوى ونحن صغار، لكنه أبدا لم يسمح لأي منا أن يدخل بيته.
فضول
وقد دفعني الفضول إلى مراقبته من خلال نافذة صغيرة تطل على صالة فسيحة داخل المنزل تضم مدفئة وكرسيا من الخشب العتيق، حيث يجلس العجوز وهو ينظر إلى ألسنة اللهب المتراقصة، بينما يقضم شيئا يشبه الحلوى، حمراء اللون تغوص في شراب أحمر، داخل كأس زجاجي مغبش.
كم تمنيت لو أتذوق قطعة من تلك الحلوة، رغم أنه كان ينتشلها بأصابعه من الكأس، ثم يدسها في فمه ويلوكها لثوان قبل أن يبتلعها بصعوبة، ثم يرشف بعضا من الشراب الأحمر.
أتذكر تلك المرة التي حاولنا فيها التسلل إلى البيت القديم، فثار العجوز وصرخ فينا قبل أن نخطوا قدما واحدة إلى الداخل، ففررنا والرعب يسابقنا. وبعد أن أنهيت دراستي الإعدادية سافرت مع والداي إلى مدينة بعيدة، لكن فضولي لازمني كظلي، إلى أن انتهت السنة الثانية من المرحلة الثانوية، حيث ماتت جدتي فاصطحبني أبي إلى البلدة لندفنها.
انتهينا من دفن الجدة في المقابر التي لا تبعد عن بيت العجوز كثيرا، ففكرت في أن أغامر وأذهب إلى ذلك البيت لأرى الرجل، الذي بات اليوم على مشارف الثمانين من عمره.
نظرت من النافذة الصغيرة، فوجدت الكرسي القديم يهتز رغم أن العجوز لم يكن يجلس عليه، ورأيت على المنضدة الصغيرة ذلك الكأس الذي لا يفرغ أبدا من الحلوى والشراب الأحمر، فضلا عن تلك النيران المشتعلة دوما في المدفئة.
قلب طفلة
تسللت إلى داخل البيت، وأمسكت الكأس ثم ممدت يدي لأخرج قطعة حلوة، فوجدتها لينة مثل قطعة لحم، فقلت في نفسي ربما لأنها داخل ذلك الشراب فهي لينة، لكنني وقبل أن أخرج الحلوى، سمعت صرير الباب، فاسرعت أختبئ خلف خزانة خشبية في أحد أركان الصالة.
دخل العجوز وهو يحمل جوالا أنزله على الأرض، ثم رأيت منظرا لا يمكنني نسيانه ما حييت.. إنها فتاة صغيرة فاقدة للوعي!!
ألقى الرجل بها على الأرض، فاستفاقت وأخذت تصرخ وهي ترجف، بينما مزق هو ملابسها من عند الصدر ثم أخرج منجلا حادا وهم بشق صدرها، فقمت من مكاني وأنا اصرخ فيه، ورحت لأخلص المسكينة من بين يديه، لكنه سرعان ما تحول من رجل عجوز إلى هيئة طفل عملاق يصرخ كثور هائج، وقبل أن استوعب ما حدث ضربني على رأسي بالمنجل فأفقدني وعيي.
ما بين فقدان الوعي وبداية الانتباه، رأيت العجوز الذي صار طفلا عملاقا يقتلع بيديه قلب الطفلة، ويقطعه بالمنجل إلى قطع صغيرة يملأ بها الكأس، ثم يصب عليها بعضا من دماء فريسته، ثم أخذ جثتها وألقى بها إلى النار في المدفئة، وأخذ يتأرجح على كرسيه وهو يتناول تلك القطع التي كنت أظنها طيلة أعوام طفولتي حلوى!!
خطاب
استعدت وعيي تماما، بينما عاد الطفل العملاق إلى صورته كعجوز بطيء الحركة، إذ أنه قطع المسافة ما بين الكرسي والخزانة الخشبية في دقائق ليست قليلة، ففتحها وأخرج منها صندوقا صغيرا، وضعه أمامي مفتوحا، فأخرجت منه بيدي المرتعشة ما به من أوراق هي خطابات قديمة مكتوبة على ورق مهترئ، ويبدو أن الأنامل اليت كتبتها تعود ليد طفل صغير ويظهر ذلك في الخط المتكسر والحروف الكبيرة والأخطاء الإملائية التي لم تعق فهمي للكلام المكتوب.
في أحد الخطابات قرأت: هذا هو خطابي العاشر لك.. كالعادة أنت لا تنظرين إلي منذ أخبرتك أنني أحبك.. أحاول كثيرا أن أنسى ابتسامتك الساخرة التي رأيتها على شفتيك حينها، لكنني في كل مرة أفشل.. أعرف أنك لا تحبين أسناني المتآكلة ولا شعري الأجعد.. أخبرت جدي بما فعلته معي فقال لي إنك فتاة بلا قلب.. تماما مثل أبي وأمي الذين هجراني قبل سنوات..
عزيزتي أنا أكرهك وأكرهما.. كل ليلة وقبل أن أنام أتخيل جوفك الفارغ من القلب واسأل كيف تعيشين بلا قلب.. يوما ما سأشق صدرك لأرى ماذا يوجد داخله مكان القلب».
لم تغب الست ماري سوى لحظات مرت علي سنوات وسنوات، وقالت وابتسامة واسعة تكسو وجهها: «تلك سطور من مذكرات جدي».