حكايات الست ماري (3)
في طريقي إلى السطوح، حيث تقبع غرفتي التي أسكنها بإحدى البنايات العتيقة
بمنطقة الوسط، توقفت على البسطة أمام شقة الست ماري الأرمينية، لأتبين ذلك الصوت
الخارج منها، فقد تصورت للحظة أنه للشيخ محمد رفعت وتحديدا سورة يس. دفعني الفضول لأن أدق جرس الباب لأتأكد إذا كانت تلك السيدة السبعينية
المسيحية تستمع إلى القرآن، أم أن الأمر كله اختلط علي؟!
فتحت الست ماري بابها، متشحة بالسواد، وعلى وجهها حزن لم أره منذ مات زوجها، غير أنه رغم ذلك بدت بهية كعادتها، فملاحة ملامحها أصيلة بالدرجة التي تهزم الحزن كما تفعل دوما هي في مواجهة الزمن، وربما أن ذلك أصله كله يعود لنقاء قلبها وصفاء روحها.
كانت الدموع تنساب على وجنتي الست ماري، بينما صوت الشيخ رفعت يلعلع في أركان الشقة، ويطوف في أرجائها فيمسح الحزن عن التابلوهات المعلقة على الحائط، فيما أضفى تمثال «العدرا» بعدا آخر للمشهد المتخم بتفاصيل غنية عمرها مئات السنين.
الشيخ رفعت
أدخلتني الست ماري إلى الشقة، وفي صمت دلفت إلى المطبخ فأحضرت السبرتاية وعدة القهوة، وراحت تعد لي فنجانها المعهود، وهي تتجنب النظر لي، غير عابئة بالدهشة التي تكسو وجهي والحيرة التي تعض قلبي بنواجزها، بسبب استبدال صوت الشيخ رفعت بتلك الأغاني القديمة التي اعتدت أن تتسلل إلى مسامعي وأنا في غرفتي آتية من شقة الست ماري.
- إيه الحكاية يا ست ماري؟
لم تفتح فمها هي ولو بكلمة، وواصلت عملها بصب القهوة في الفنجان، ثم ناولتني إياه بهدوء.
- جرى إيه احكيلي..
فهمت الست ماري مغزى كلامي وحيرتي في أنها تستمع إلى القرآن، وهي ليست مسلمة، فلم تتركني غارقا في أسئلتي، وأخبرتني أن الأستاذ «جابر» المحاسب على المعاش زوج الست أم محمود جارتنا في الدور السادس قد توفي اليوم في حادث قطار، إذ كان في طريقه لزيارة أهله في أسيوط.
- لا حول ولا قوة إلا بالله.. هو كان في القطر ده.. أنا عرفت بالحادثة بس متصورتش إن ممكن حد من اللي ماتوا يكون من الناس اللي نعرفهم..
- الموت يابني مش بعيد على حد فينا..
عادات وتقاليد
أطرقت برأسي إلى الأرض، ومسحت بأصابعي دمعات انسابت من عيني دون بكاء، ثم نظرت إلى الست ماري، ويبدو أنها لاحظت بقايا الحيرة العالقة على وجهي، فجاوبتني دون سؤال بأنها اعتادت أن تشارك سكان العمارة في أفراحهم وأحزانهم، لهذا فإنها إذا مات أحد الجيران أو أحد أقاربه امتنعت عن سماع الأغاني والفرجة على التلفزيون لثلاث ليال، فضلا عن تشغيل الكاسيت القديم، المنزوي بأحد أركان مدخل الشقة، وفي باطنه أحد شرائط القرآن التي تحتفظ بها لمثل هذه الأمور، وزادتني بأنها تستملح صوت الشيخ رفعت تحديدا.
سألتها، وأنا الوافد الجديد على هذه العمارة، إذا كان باقي الجيران قد فعلوا معها بالمثل حين مات زوجها، فقالت إن جميعهم قد أعلن الحداد في ذلك الوقت، فأغلقت كل أجهزة التلفزيون، ولم يكن الراديو في أي من البيوت سوى حهاز لبث القرآن الكريم طيلة ثلاثة أيام بلياليها، كما أنهم شاركوا في جنازة المرحوم في بطريركية الأرمن الكاثوليك.
ارتشفت ما تبقى من قهوة في الفنجان، ثم غادرت شقة الست ماري، وأنا أفكر عظمة البوتقة المصرية التي تنصهر في داخلها الأديان والحضارات والثقافات، منتجة كائنا نقيا اسمه «المصري» مهما اختلفت ملامحه ولونه وعقيدته، لو تلك الشوائب التي تعتريه من فترة لأخرى، قادمة من الشرق أو الغرب.
فتحت الست ماري بابها، متشحة بالسواد، وعلى وجهها حزن لم أره منذ مات زوجها، غير أنه رغم ذلك بدت بهية كعادتها، فملاحة ملامحها أصيلة بالدرجة التي تهزم الحزن كما تفعل دوما هي في مواجهة الزمن، وربما أن ذلك أصله كله يعود لنقاء قلبها وصفاء روحها.
كانت الدموع تنساب على وجنتي الست ماري، بينما صوت الشيخ رفعت يلعلع في أركان الشقة، ويطوف في أرجائها فيمسح الحزن عن التابلوهات المعلقة على الحائط، فيما أضفى تمثال «العدرا» بعدا آخر للمشهد المتخم بتفاصيل غنية عمرها مئات السنين.
الشيخ رفعت
أدخلتني الست ماري إلى الشقة، وفي صمت دلفت إلى المطبخ فأحضرت السبرتاية وعدة القهوة، وراحت تعد لي فنجانها المعهود، وهي تتجنب النظر لي، غير عابئة بالدهشة التي تكسو وجهي والحيرة التي تعض قلبي بنواجزها، بسبب استبدال صوت الشيخ رفعت بتلك الأغاني القديمة التي اعتدت أن تتسلل إلى مسامعي وأنا في غرفتي آتية من شقة الست ماري.
- إيه الحكاية يا ست ماري؟
لم تفتح فمها هي ولو بكلمة، وواصلت عملها بصب القهوة في الفنجان، ثم ناولتني إياه بهدوء.
- جرى إيه احكيلي..
فهمت الست ماري مغزى كلامي وحيرتي في أنها تستمع إلى القرآن، وهي ليست مسلمة، فلم تتركني غارقا في أسئلتي، وأخبرتني أن الأستاذ «جابر» المحاسب على المعاش زوج الست أم محمود جارتنا في الدور السادس قد توفي اليوم في حادث قطار، إذ كان في طريقه لزيارة أهله في أسيوط.
- لا حول ولا قوة إلا بالله.. هو كان في القطر ده.. أنا عرفت بالحادثة بس متصورتش إن ممكن حد من اللي ماتوا يكون من الناس اللي نعرفهم..
- الموت يابني مش بعيد على حد فينا..
عادات وتقاليد
أطرقت برأسي إلى الأرض، ومسحت بأصابعي دمعات انسابت من عيني دون بكاء، ثم نظرت إلى الست ماري، ويبدو أنها لاحظت بقايا الحيرة العالقة على وجهي، فجاوبتني دون سؤال بأنها اعتادت أن تشارك سكان العمارة في أفراحهم وأحزانهم، لهذا فإنها إذا مات أحد الجيران أو أحد أقاربه امتنعت عن سماع الأغاني والفرجة على التلفزيون لثلاث ليال، فضلا عن تشغيل الكاسيت القديم، المنزوي بأحد أركان مدخل الشقة، وفي باطنه أحد شرائط القرآن التي تحتفظ بها لمثل هذه الأمور، وزادتني بأنها تستملح صوت الشيخ رفعت تحديدا.
سألتها، وأنا الوافد الجديد على هذه العمارة، إذا كان باقي الجيران قد فعلوا معها بالمثل حين مات زوجها، فقالت إن جميعهم قد أعلن الحداد في ذلك الوقت، فأغلقت كل أجهزة التلفزيون، ولم يكن الراديو في أي من البيوت سوى حهاز لبث القرآن الكريم طيلة ثلاثة أيام بلياليها، كما أنهم شاركوا في جنازة المرحوم في بطريركية الأرمن الكاثوليك.
ارتشفت ما تبقى من قهوة في الفنجان، ثم غادرت شقة الست ماري، وأنا أفكر عظمة البوتقة المصرية التي تنصهر في داخلها الأديان والحضارات والثقافات، منتجة كائنا نقيا اسمه «المصري» مهما اختلفت ملامحه ولونه وعقيدته، لو تلك الشوائب التي تعتريه من فترة لأخرى، قادمة من الشرق أو الغرب.
