رئيس التحرير
عصام كامل

سلسلة ما وراء التسريحة (2)

عدت إلى المنزل مثل كتكوت مبلول، بعدما فشلت في فتح باب المشرحة، قبل أن يعود عم رجب كبير العاملين، وتسللت على أطراف أصابعي كي لا تستيقظ العقربة حسنات زوجتي وتسود عيشتي، لكن يبدو أن شيئا جيدا يلوح في هذا اليوم الأغبر الذي لم تطلع له شمس بعد، فالست حرمنا ليست في البيت.


هل خرجت إلى السوق لشراء احتياجات البيت في هذا الوقت المبكر؟ أما أن عفريتا خطفها؟ و«لا تكونش سقطت في عين الحمام وشدها الشفاط؟».. الكثير من الأسئلة والأمنيات دارت في ذهني كدوران الجاموسة في الساقية، لكنني لم أترك نفسي لتلك الخدعة، فالوقت ضيق ولا بد أن أستعيد سلسلة مفاتيحي التي سقطت وراء التسريحة واختفت.. لا بد أن أستعيدها لأتمكن من فتح المشرحة قبل أن يذهب عم رجب للمستشفى ويكتشف تأخيري.

في غرفة النوم، كانت الفوضى سيدة الموقف، حتى بيجامتي ملقاة كما هي على الأرض، يجب أن أضعها على الشماعة قبل أن تعود الحرباية حسنات و«تديني» كلمتين في جنابي!! انحنيت لألتقط البيجاما كما ينحني راقصو الباليه، فسمعت طرقعة ظهري.. آآآه يبدو أن المنحوس منحوس فعلا، لكن ما هذا؟!

ذلك الشيء المكلكع في جيب البيجاما ما زال موجودا، لا بد أن أفك هذه الخياطة وأنزع ذلك الشيء المكعبر كما طلبت مني زوجتي، فالأفضل في هذه الفترة ألا أترك لها فرصة لمهاجمتي، إذ إنها في مثل هذا الوقت من كل عام تتحول إلى أفعى في موسم التزاوج تلدغ كل من يأتي في طريقها ولا تكف عن الفحيح..

بقوة، نزعت البيجاما فانفك الخيط، فرأيت ما لا يمكن أن يستوعبه عقل.. ذلك الشيء المكلكع لم يكن سوى الدكتور فرغلي، العالم الشهير وأستاذي الذي اختفى قبل ثلاث سنوات، لقد أصبح في حجم عقلة الأصبع.. ترى هل نجحت الطريقة التي ابتدعها هو وكنت أساعده فيه؟!

ما هذا الغباء؟!

الأمر لا يحتاج إلى سؤال فالرجل أمامي بشحمه ولحمه (مش قوي يعني) لكنه هو بملامحه وهيئته، فقط أصبح في حجم عقلة إصبع..

- دكتور فرغلي حبيبي، أين أنت يا رجل وحشتني والله.. أنا تصورت أنك مت لامؤاخذة في اللفظ.. ماذا؟ ماذا تقول؟! أنا لا أسمعك..

يبدو أن عملية تصغير جسد الدكتور فرغلي شملت أيضا خفض صوته لدرجة أنني أرى فمه دقيقا يتحرك وكأنه يتحث لكنني لا أسمعه، إذا ما الحل؟ آه خطرت لي فكرة.. سأذهب لأحضر ذلك المايك الذي أستخدمه لتسجيل الملاحظات الصوتية على هاتفي المحمول ليحادثني الدكتور فرغلي من خلاله فيمكنني سماع صوته.

أحضرت المايك، ووضعته أمام فم الدكتور فرغلي، أو لأكون دقيقا وضعت الدكتور فرغلي بشحمه ولحمه على المايك، فجلس عليه كفارس على جواده ثم بدأ يتحدث..

- أيها الغبي، ثلاث سنوات وأنا محبوس في البيجاما منذ نجحت في إجراء عملية تصغير جسدي..

- سامحني يا دكتور فرغلي، وكيف لي أن أعرف ذلك.. لقد اختفيت أنت وتركتني تائها كحمار بدون صاحب.. المهم حمدلله على سلامتك..

- طيب يا سيدي شكرا، المهم الآن ليس لدينا وقتا طويلا، فخلال أسبوع من اليوم سيقام مؤتمر «تصغير البشر» في فنلندا ويجب أن أسافر بالبحث كي أعرضه عليهم هناك ليعرف العالم كله أن مصر بها علماء أفذاذ مثلي..

- هل ستعيد نفسك لحجمك الطبيعي وتسافر؟!

- لا، لا بد أن أبقى على هذا الحجم كي يكون دليلا علميا على نجاح بحثي، لهذا سيكون لك دور مهم..

جلست أمام اللاب توب وبدأ الدكتور فرغلي يملي على البحث العلمي الذي يوثق من خلاله اختراعه الخاص بتركيبة كيميائية يمكن من خلالها تصغير البشر والحيوانات إلى واحد من عشرة في المئة من الحجم الطبيعي.

وعندما انتهيت سألت الدكتور فرغلي عن الطريقة التي سيسافر بها إلى فنلندا وهو بهذا الحجم الضيل، فطلب مني شيئا عجيبا، وهو أن أضعه مع أوراق البحث في مظروف يسجل بعلم الوصول أرسله إلى فنلندا، وهذا الأمر سيأخذ نحو ستة أيام، أي أنه والبحث سيذهبان إلى المؤتمر قبل موعده بيوم كامل.. فعلا هذا الرجل ذكي.

قبل أن أفعل ما طلبه الدكتور فرغلي، سألته عن السر في بقائه حيا طيلة السنوات الثلاث الماضية داخل بيجامتي بدون طعام أو شراب، فأخبرني أنه طوال السنة الأولى كان يتغذى على قطعة بسكويت اصطحبها معه قبل أن يختبئ في البيجاما، أما العامان الآخران فكان يتغذى على ما يسقط مني من أكل على البيجاما وأنا أتناول طعامي كالأهطل.

- طيب والحمام يا دكتور! كيف عشت بلا حموم وكيف كنت تفعل مثل الناس لا مؤاخذة؟!

- الست حرمك ربنا يجازيها خير، كانت تتولى هذه العملية..

- مراتي أنا؟ حسنات كانت بتحميك يا دكتور فرغلي؟! طيب والبيبي.. كانت بتشطفك!!

- أيها المخبول، زوجتك لو كانت تعرف بأمري لهرستني مثل البطاطساية المسلوقة ووضعت علي بيض وبقسماط..

- دكتور بانيه هههههههههههههه..

- ولد!! كل ما في الأمر أنها كانت تضع البيجاما في الغسالة فكنت أستحم بالمرة.. أما عملية إخراج الفضلات فلم تكن مشكلة إذ إنني نجحت من خلال تركيبة تصغير الأجسام في أن أحول فضلاتي العضوية إلى معادن.. لهذا من المؤكد أنك كنت تشعر بوخز مثل وخز الإبر من وقت لآخر.

قبل أن تعود زوجتي إلى المنزل، طبعت البحث الذي أملاني إياه الدكتور فرغلي، لكنني لم أحذف ملف الوورد كما طلب مني، ولا أعرف السبب في ذلك، فقد كان حريصا على أن أحذفه بينما تظاهرت أنا بذلك وأخفيت منه نسخة دون أن يلاحظ الأمر، ثم جمعت أوراق البحث بعد طبعاتها ووضعت الدكتور فرغلي بينها داخل مظروف كبير، أظنه يعتبر مدينة كبيرة بالنسبة للرجل الذي بات في حجم عقلة الأصبع، ثم خرقت الظرف كي يكون هناك فرصة لدخول الهواء وخروجه حتى لا يختنق الدكتور فرغلي، الذي وضعت معه أيضا كسرة من لوح بسكويت مبلول ليعيش عليها إلى أن يصل فنلندا ليحضر المؤتمر، ثم ذهبت إلى مكتب البريد وأرسلته من هناك.

مسرعا، عدت إلى البيت، وفتحت اللاب توب مرة أخرى لأتأكد من وجود ملف الوورد المدون فيه ذلك البحث الخطير، الذي يحوي الطريقة والتركيبة الكميائية الخاصة بتصغير البشر والحيوانات، ثم حملت منه نسخة على مساحة التخزين السحابي في بريدي الإلكتروني، وأغلقت الجهاز.

مرة أخرى ذهبت إلى الحمام، وأحضرت عصاية الممسحة لأحاول مجددا استعادة سلسلة المفاتيح التي سقط مني خلف التسريحة، حتى أتمكن من الذهاب إلى المشرحة وفتحها قبل أن يعرف عم رجب ما حدث، فأنا في أمس الحاجة لهذه الوظيفة حتى وإن كنت أمقتها فهي مصدر أكل عيشي الوحيد.. أضف إلى كل ما سبق أنني أخشى أن تتعفن الجثث فكثير ما ينقطع التيار الكهربائي عن ثلاثجة الموتى وليس هناك مولد كهربائي احتياطي.

مجددا، فشلت محاولاتي في استعادة سلسلة المفاتيح من وراء التسريحة، التي لا يمكنني زحزحتها عن مكانها، إذ إنها مصنوعة من الفولاذ ومغروسة في أرضية الشقة، ولا تسألني عن السر في ذلك، فهذه فكرة حسنات – الله يجازيها - التي طلبت أن يكون كل أثاث بيتنا من الفولاذ ومثبت بإحكام في أرضية الشقة، بداعي أن ذلك يمنع اللصوص من سرقتنا.

ترى ماذا أفعل الآن؟

الوقت يداهمني،.. وعم رجب من خلفي والعقربة حسنات من أمامى!
الجريدة الرسمية