رئيس التحرير
عصام كامل

لو كل كلب عوى

للأسف، أن الواقع يقول، إن كل أطراف الأزمة التى اندلعت مؤخرا بين فرنسا والدول الإسلامية "مخطئون" وأنه تم إدارة الأحداث بمعرفة "سياسيين" لا يمتلكون الحد الأدنى من مقومات العمل السياسى، و"رجال دين" لا يمتلكون أدنى درجات الحكمة.


فبنظرة عاقلة وهادئة لتطورات الأحداث، سنجد أن شرارتها الأولى بدأت بتصرف غير مسئول من صحيفة منفلتة تدعى شارلى إبدو "الطرف الأول" فى الأزمة، والتى يجهل مجلس تحريرها أن "لحرية التعبير" خطوط حمراء يصعب الاقتراب منها، حتى وإن لم ينص عليها فى قوانين محلية أو دولية، يأتي فى مقدمتها "الأديان وحرية الاعتقاد" تجنبا للمساس بمشاعر الآخرين.

بلد الفواحش
إلا أن ما حدث ويحدث منذ سنوات، أن الدولة الفرنسية "الطرف الثانى" فى الأزمة، تركت الأمر مفتوحا للصحيفة المنفلتة، التى وجدت فى المواظبة على نشر رسوم مسيئة لكل "الرسل والأنبياء" خاصة "محمد" و"عيسى" عليهما السلام، وسيلة لإثارة الجدل، وزيادة التوزيع، والانتشار عالمياً.

ولا يخفى على أحد فى العالم، ما كانت، ومازالت تحدثه تلك الرسوم من صدى وردود أفعال غاضبة فى الدول الإسلامية "الطرف الثالث" فى الازمة، على العكس تماما من ردود أفعال المسيحيين فى العالم، تجاه الرسوم المسيئة لنبى الله "عيسى" عليه السلام، والتى تم إهمالها وعدم النظر إليها وكأنها لم تحدث.

لقد تعامل مسيحيو العالم مع الرسوم المسيئة لنبى الله "عيسى" عليه السلام بمبدأ "لو كل كلب عوى ألقمته حجرا" ولو تعاملت "الدول الإسلامية" مع الرسوم المسيئة للرسول "محمد" عليه السلام، بذات منطق التجاهل "وتركنا الكلاب تعوى" لمر الأمر كأن لم يكن، وما سمع أحد ب "شارلى إبدو" أو رسومها التافهة.

للأسف، لقد كشفت مداومة الصحيفة الفرنسية على نشر الرسوم المستفزة لمشاعر المسلمين، عن افتقاد جميع أطراف الأزمة "للحكمة" منذ سنوات، بدليل استمرار مهزلة الرسوم منذ ما قبل يناير 2015 الذى شهد هجوما إرهابيا على مقر الصحيفة، راح ضحيته 12 من العاملين بها.

وبدلا من إعادة النظر فى سياسية الصحيفة من قبل مجلس التحرير، أو الدولة الفرنسية، عاودت الصحيفة منذ أيام نشر ذات الرسوم المسيئة لنبى المسلمين، مما دفع جماعات التطرف الإسلامى "الطرف الرابع" فى الأزمة، إلى العودة إلى بؤرة الأحداث من جديد، والإقدام على "ذبح" معلم التاريخ الفرنسى "صامويل باتى" على يد متطرف شيشانى مسلم.

قانون "ابن هرمة"
وزادت الأزمة اشتعالا، بعد تصريحات الرئيس الفرنسى إيمانول ماكرون "الطرف الخامس" فى الأزمة، والذى بدلا من التصرف بحنكة السياسى، قرر استثمار الحادث سياسيا، وكسب أصوات اليمين المتطرف خلال الانتخابات الرئاسة القادمة، معلنا الوقوف إلى جانب الراغبين فى نشر رسوم مسيئة لنبى الإسلام، تحت دعوى الدفاع عن "حرية الرأى".

الموقف الخاطئ من الرئيس الفرنسى، تبعه موقف أكثر جهلا من الرئيس التركى رجب طيب أردوغان "الطرف السادس" فى الأزمة، والذى بدلا من التصرف بحنكة السياسى أيضا، وجد فى خطأ الرئيس الفرنسى فرصة للانتقام من موقفه المعادى للتدخل التركى فى ليبيا وشرق المتوسط، وسارع بشن هجوما على "ماكرون" وفرنسا، فى الوقت الذى عم فيه الغضب كل أرجاء العالم الإسلامي، وسط دعوات بمقاطعة المنتجات الفرنسية.

فى الوقت الذى انتفض فيه "مجلس حكماء المسلمين" برئاسة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر "الطرف السابع" فى الأزمة، والذى بدلا من دعوة المسلمين إلى تجاهل "الرسوم الصبيانية" قرر تصعيد الأمر، والدعوة لاجتماع طارئ، انتهى إلى قرار بتشكيل لجنة دولية تضم عددا من خبراء القانون، تمهيدا لإقامة دعوى قضائية ضد الصحيفة الفرنسية.

وترتبا على الخطوات الخاطئة من الجميع، سارعت "جماعات الإسلام السياسى المتطرفة" فى إطلاق دعوات الإنتقام من فرنسا والفرنسيين، وشهدت كاتدرائية مدينة "نيس" حادثا مأساويا سقط على إثره 3 أبرياء على يد متطرف مسلم، فى الوقت الذى شهدت فيه مدينة جدة السعودية، إقدام متطرف آخر، على طعن حارس بالقنصلية الفرنسية بالمدينة.

"إرهابى" فى قلب أمريكا
الواقع يقول، إن جميع أطراف الازمة "مخطئون" بدءا من "شارلى إبدو" التى رأت فى الإساءة لنبى المسلمين فرصة للانتشار، و"الحكومة الفرنسية" التى لم تتدخل لضبط أداء الصحيفة المنفلتة و "الدول الإسلامية" التى لم تتجاهل الأمر، و"جماعات الإرهاب الإسلامى" التى رأت فى الأمر جهادا ضد كفار، و "الرئيس الفرنسى" الذى لم يضبط تصريحاته، و"أردوغان" الانتهازى الذى قرر استثمار الأمر لصالح منتجات بلاده.

وتبقى الأحداث مرشحة للتصعيد خلال الأيام القليلة القادمة، غير أن الخاسر الأكبر فيها سيكون "الدولة الفرنسية" التى من المتوقع أن تمنى بخسائر اقتصادية كبيرة فى حالة استجابة الدول الإسلامية لدعوات مقاطعة المنتجات الفرنسية، و"ماكرون" المتعجرف، الذى فقد تعاطف ما يقرب من 7 ملايين مسلم فرنسى، فى مقابل كسب أصوات اليمين المتطرف.. وكفى.
الجريدة الرسمية