حلم الست سعاد

السكون يخيم على المكان إلا من صوت القرآن، وهناك في نفس الركن الذي إعتاد الجلوس فيه.. جلست تتلمس كيس أدويته ومسبحته، ثم تنظر إلى صورته المعلقة على الحائط المقابل وفي عينيها ألف سؤال، وفي عيون المعزين أسئلة أخرى..

ربما تسأله عن حاله الآن، وهل أراحه الموت من ألم لازمه سنوات، وربما عتاب له على الذهاب وقد تعاهدا على مواصلة الرحلة سوياً، ففي هذه اللحظات يهذي البعض كما لو كان الموت اختياراً، وربما أخذتها الذكريات إلى البدايات القريبة، فابنة العشرين التي مضى على زواجها عشر سنوات..صارت أرملة وهي في ريعان الشباب.

عندما يكون الاحترام جريمة
أما النسوة المعزيات فحملت همهماتهن الأسئلة المعتادة..هل تتزوج سعاد؟ أم تكمل حياتها مع أطفالها؟ وهل يكفيها وصغارها معاش زوجها الذي لم يتخط بضع مئات من الجنيهات؟

ودعت سعاد المعزيات، ولملمت جراحها واحتضنت صغارها، وبدأت رحلتها في تربية أربعة أطفال، متمسكة بالعفة وعزة النفس، وما بين الحين والآخر تحسم جدل أهل القرية برفضها عروضا مغرية للزواج. أحلامها كانت لصغارها، فصارت نموذجاً للإيثار.

تحقق حلمها الأول في الابنة الكبرى التي التحقت بالجامعة لتدرس في الكلية النظرية التي اختارتها منذ الطفولة، أما الابنة الثانية التي شاهدتها والدتها مرتدية (بالطو) الصيادلة الأبيض فاعتمدت على نفسها مكتفية بحصصها المدرسية، ساعية إلى تحقيق حلما ووالدتها في دخول كلية الصيدلة.

كنت وغيري من المتابعين لرحلة الست سعاد نترقب حلم ابنتها (منى) الذي جاهرت به لمدرسيها وجيرانها، كنت أتواصل مع (منى) بعد خروجها من كل امتحان لتخبرني أنها على ما يرام وأنها ترفض الغش نهائياً.

نجحت (منى) وحصلت على ستة وتسعين في المئة، هللت والدتها معتقدة أن الحلم تحقق، وأن رحلة الشقاء والعذاب والإيثار توجت بهذا المجموع الكبير، لكن الابنة التي ثابرت وتحملت راحت في نوبة بكاء وحزن، فالمجموع لن يؤهلها لدخول كلية الصيدلة، وراحت (سعاد) تطرق أبواب كل الجامعات بعفوية الأم التي اقترب حلمها من التبخر، ولكن دون جدوى.

عشوائيات النخبة

 
زميلات (منى) اللاتي حصلن على مجموع أقل منها تقدمن بأوراقهن إلى كليات الطب والصيدلة في الجامعات الخاصة، وجلست الست (سعاد) أم اليتامى في نفس الركن، تنظر إلى صورة زوجها وكأنها تخشى من لوم عليها، لتقسم له أنها بذلت كل ما في وسعها، فالعين بصيرة، لكن اليد القصيرة حالت بينها وحلم ابنتها في دخول كلية الصيدلة. هاتفتني الست (سعاد) لمساعدتها، ولأول مرة أشعر بالعجز وقلة الحيلة، وفي كل اتصال لها تأخذني الذاكرة إلى مشهد عزاء زوجها بكل تفاصيله..

كم من (سعاد) عانت في التربية والعيش على الكفاف لتربية أيتامها، وكم من (منى) ثابرت ولم تجرب حصة درس خصوصي واحدة، لكنه نظام التنسيق الذي يبدد أحلام أمثالها، ولأمثالها لا تنظر الجامعات الخاصة ولو بعين الرأفة.

besheerhassan7@gmail.com