صغار لكن كبار
ليس شرطا أن يتحلّى
بالكرامة وعزة النفس الرجال الأشداء، أو النساء اليافعات، بل ربما أطفال واجهوا مشقة
الحياة منذ الصغر، وتحملوا عثرات كسب لقمة العيش بمنتهى الرغبة فى التكسب الحلال، بعيدا
عن التسول أو التواكل، برغم أنهم قد يجنون منها أرباحا طائلة إذا ما وضعوا ذلك هدفا
لهم.
كنت أستقل مترو الأنفاق،
وصعدت طفلة تبيع بعضا من المناديل الورقية وشموع أعياد الميلاد، كانت فى عمر لا يتجاوز
العشرة أعوام تقريبا، تجولت الفتاة بين الركاب منادية على بضاعتها بصوت منخفض، وهمّ
أحد الركاب بإعطائها قليلا من المال رافضا أخذ أى سلعة من التى معها، إلا أن الصغيرة
أبت فى عناد وتصميم شديد إلا أن يأخذ مقابل المال الذي دفعه، وأمام إصرارها بلا أى
تراجع، رضخ الراكب وأخذ مقابل المال بعضا من السلع التى معها.
أهل الفضفضة
انتهت الصغيرة ذات
الجسد النحيل من البيع وجلست فى أحد أركان العربة، تحصي ما تكسبته من مال وتحصر بضاعتها
والمتبقي منها، ليبادر أحد الشباب داخل العربة لم يحضر المشهد السابق يبدو أن مظهر
الفتاة البائس أثار شجونه بالقيام من مكانه وإعطائها بعضا من النقود، فقالت له:
"مناديل ولا شمع؟"، فرد: "مش عايز أى حاجة الفلوس دى من أخوك ليك".
انتفضت الفتاة بالرد
فى صرامة لا يعبر عنها سنها الصغير:"متشكرة ربنا يخليك أنا مش باخد اى فلوس من
غير بيع"، فرد عليها محاولا ومصرا أمام الجميع أن يعطيها النقود لأن معه مناديل
ولا يحتاج من هذا كله إلا مساعدتها فقط.
رفضت الفتاة فى عناد
وصلابة رأس شديدة أخذ أى مال من الشاب، منبهة إياه أنها ستهم بالنزول فى المحطة المقبلة
وأن عليه أن يختار أى سلعة من التى معها، أو ياخذ نقوده بلا أى نقاش.
هادنها وأخذ المناديل
بالفعل، وانتظر حتى همت بالنزول وحال اقتراب أبواب المترو من الإغلاق بعد نزولها ألقى
إليها بعبوات المناديل من الباب على الرصيف حتى لا تستطيع التراجع وتأخذ النقود والمناديل
وتنصرف، إلا أن الفتاة باغتته برد فعل مفاجئ، إذ قذفت إليه نقوده من شباك العربة إلى
الداخل وسط الركاب بينما المترو يتحرك، معلنة بهذا التصرف إصرارها على مبدأها (النقود
أمام السلع) وليس التسول.
روائح الأمل
خيمت حالة من الوجوم
الشديد على ركاب العربة، بين مندهش من تصرف الفتاة النبيل الذى لا يدل عليه صغر سنها
أبدا، وبين من يدعو بالخير لمن رباها على هذا، وبين آخر يدعو لها بسعة الرزق والستر.
لم أجد تفسيرا لإصرار
الفتاة النحيلة على البيع ورفضها القاطع للتسول والاتكالية، سوى أن هناك أناسا بيننا
حتى لو كانت ظروفهم تضطرهم للسعي في كل اتجاه فى سبيل لقمة العيش وما بها من عناء ومشقة،
يأبون معيشة التنطع، يشعرون بروعة جنى الرزق بعد عناء، وهؤلاء هم أولاد الأصول، حتى
لو جار عليهم الزمان وفعل بهم أفاعيله،، سلمت روح من رباك يا صغيرتي.