رئيس التحرير
عصام كامل

"العجوز" و"كورونا"

مضى قطار العمر.. اقترب من محطته الأخيرة، التى كاد يختارها باليوم.. والساعة. رحلت زوجته التى عاش قصة حب لن تنتهي، بدأت منذ أكثر من نصف قرن عندما إلتقيا في كلية واحدة، وقررا الزواج، وعندما انهيا الدراسة الجامعية وتسلما ورقة التعيين، كما كان يحدث في ذلك الزمن، قاما بتأجير شقة متواضعة، وبدأ رحلة الكفاح.

 

قبل رحيلها بسنوات أصيبت بأمراض الشيخوخة التى اقعدتها، وخصص وقته كله لخدمتها، وعندما رحلت كان يتحدث عنها، كما لو كانت على قيد الحياة، رفض عقله أن يصدق رحيلها وإنها غادرت بلا عودة.

غادر ولده الوحيد إلى أوروبا منذ سنوات ليعمل بأحد مصارفها، وإستمر يتصل بهما كلما حانت الفرصة وعندما يطول غيابه يقدم الأعذار، بأن الغرية وشئونها تشغله عن الاتصال.

 

أحيل للمعاش منذ أكثر من عشرين عاما، لم يعد يتذكر السنين، ولم يتبق له من رفاق العمر سوى صديقين فقط. رحل الباقون عن دنيانا، وكأنهم يتسابقون على الرحيل ليتركوه وحيدا.

 

اقرأ ايضا: الغنوشى.. الولاء للجماعة لا للوطن

 

تعب من العزاء في السرادقات، وفي كل مرة كان يشعر إنه يفقد قطعة من نفسه.. فلا أحد يعرف مدى ما يصيب شخص في نهاية العمرمن ألم عندما يودع صديق كان يؤنسه في وحدته ولو عبر اتصال تليفونى. فرض على نفسه العزلة والبقاء في البيت منذ سنوات عديدة، قبل أن يظهر الفيروس اللعين في حياتنا، ويحيلها إلى مأساة كاملة الأركان.

 

لم يشكو يوما من الوحدة، بل كان يسعد بالبقاء وحيدا.. يسترجع شريط الذكريات التى مرت بحياته، وكانت زوجته الراحلة هي الحاضر دائما فى كل واقعة، كان يضحك عندما يتذكر المواقف الصعبة التى واجهتهما في بدايىة حياتهما، وأحيانا يبكى عندما يعاتبها على إنها لم تلتزم بوعدها معه، إتفقا أن يغادرا الدنيا معا، ولا يغادرها احدهما ويترك الآخر يتجرع مرارة الوحدة ولكنها خذلته وخانت العهد وتركته يعانى من حياة بلا معنى، خالية من كل شىء.. الأصدقاء الذين رحلوا.. وأبناء جيله من الأقارب الذين كانوا يعرفونه.. رحلوا وتركوا ابناء وأحفادا لا يعرفون اسمه!

 

اقرأ ايضا: "إفراج" هزمت كورونا.. وعانت من قسوة البشر

 

لا أحد يتصل سوى صديقيه، وهما يتصلان عندما يتذكران أن لهما صديقا قديما، وتتولي سيدة نظافة الشقة اسبوعيا.. واحيانا تتعطف عليه "بطبخة" بدلا من المعلبات التى يشتريها كل اسبوع ليعتمد عليها فى غذائه.

 

تعرفت الأسرة على السيدة منذ سنوات عندما كانت زوجته على قيد الحياة.. رغم بعد المسافة بين الحي العشوائي في الجيزة التى كانت تقيم به، وسكنه في أطراف العاصمة.

 

كانت تحمل مفتاح الشقة.. وتحرص على الحضور في موعدها الأسبوعي، أحيانا كان يشعر بوجودها ويتبادل معها بعض الكلمات ويسلمها الجنيهات التى تحتاجها في شراء الخزين الأسبوعي، وفي معظم الأحيان لم يكن يعبأ بها، ويترك النقود في ظرف على طاولة السفرة.

 

اقرأ ايضا: ضربنى وبكى.. وسبقنى واشتكى!

 

حاول أحد الصديقين أن يتذكر آخر مكالمة مع صديقه وفشل، جدد الاتصال وجد التليفون "مغلقا"، اتصل بصديقهما الثالث، وجاءت الإجابة: البقية في حياتك.

متى.. وكيف.. ولماذا لم تبلغنى؟

حاولت ان أبلغك، لكن تليفونك كالعادة.. دائم الإغلاق.. بسبب ندرة الإتصالات.. رحل منذ شهرين يبدو إنه تلقى العدوى بالفيروس اللعين من السيدة التى تساعده.. فقد ثبت إنها كانت مصابة.. ولم تتوقف عن العمل من أجل سد إحتياجات اسرتها.

 

عندما ابلغنى بإصابته وكأنه يتحدث عن حدث سار، طالبته أن يذهب إلى أحد المستشفيات لتلقى العلاج، وكانت إجابته أن العلاج مؤلم.. وإنه لن يستطيع أن يتحمله وهو في عمره المتقدم.

 

اقرأ ايضا: إعلام في غيبوبة!

 

وعندما كنت ألح عليه.. إعترف بالحقيقة إنه لا يخاف الموت.. وينتظره على أحر من الجمر، وربما يمنحه الفيروس اللعين الفرصة التى كان ينتظرها منذ سنوات.. سئم الحياة التى لا معنى لها.. ويحمد الله على انه عاش سنوات مثمرة سواء في عمله..  وفي علاقته بالمرؤوسين والرؤساء خلال السنوات التى قضاها في أداء المهنة فقد كان يراعى أن يخلص لها ويحقق الإنجاز وراء الإنجاز.

 

وعاش حياة سعيدة مع زوجته الحبيبة، يصعب أن تستمر لدى الآخرين.. بحرارتها التى لم تنطفئ أبدا. وأضاف الحمد لله منحنا الله ابنا كان دائم التواصل معنا رغم عمله بالخارج، وقد إطمأننت على نجاحه في عمله، ورعايته للأحفاد الذين كانوا ينقلوننى إلى عالم آخر كلما استمعت إلى أصواتهم عبر التليفون.

ألا يكفى كل ذلك بأن أكتفي بما حققته طوال سنوات عمري.

إنه يكفي..  ويزيد

توفي العجوز ولم يشعر به أحد إلا عندما انتشرت الروائح الكريهة التى دفعت الجيران إلى إقتحام الشقة.. ونقل إلى جمعية خيرية تولت دفنه في مدافنها، دون أن يودعه أحد.

وجدوا على السفرة ورقة مكتوبا عليها عبارة: "شكرا كورونا فقد حققت لي أعز أمنياتي".

 

الجريدة الرسمية