حكم الشرع في حرمان بعض الورثة من الميراث
هل يجوز للرجل توزيع تركته على البنات إذا لم يوجد أولاد ذكور، وذلك حتى لا يدخل أحد من الأقارب في الميراث؟
ورد هذا السؤال في الجزء الخامس -المعاملات- من كتاب "أحسن الكلام في الفتاوى والأحكام" للشيخ عطية صقر الرئيس الأسبق للجنة الفتوى بالأزهر الشريف: فيقول:
يقول الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } (النساء: 7) ، نزلت هذه الآية فى أوس بن ثابت الأنصارى ، حين توفى وترك امرأة يقال لها "أم كجة" وثلاث بنات له منها..
فقام رجلان هما ابنا عم الميت يقال لهما: سويد وعرفجة، فأخذا كل ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا ، وكانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، فذكرت "أم كجة" ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية وكان الناس يورثون من يشاءون ويحرمون من يشاءون ويفاضلون كما يشاءون.
اقرأ ايضا: هل يجوز عقد القران عن طريق الهاتف؟
فنظم الله الميراث وأنزل هذه الآية {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ۚ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} فبينت الفرائض وحددتها، وجاء فيها ما يوجب الالتزام بها، فهى للمصلحة التى يعلمها الله سبحانه: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} النساء : 11.
بل إن هناك آية تدعو إلى إعطاء بعض الأقارب الذين حرموا من الميراث شيئا من تركة المتوفى عند تقسيمها ، وهى قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (النساء: 8)، بناء على أنها محكمة وليست منسوخة كما هو الأصح رواه البخارى عن ابن عباس، وهذا الإعطاء سنة كما قال أبو جعفر النحاس وقال جماعة بالوجوب.
وللأقارب تطلع وأمل في أن ينالهم نصيب مما تركه المتوفى ، وبخاصة إذا كانوا فقراء وهو غني، لكن هذه الآية تخاطب الورثة وهم يقتسمون الميراث ، وقيل إنها تخاطب من أشرف على الموت وهو يوصي بتوزيع التركة ألا ينسى أقاربه المحتاجين.
اقرأ ايضا: حكم الدين في قول بـ"الرفاء والبنين"
إن الصورة الواردة هي تقسيم الرجل تركته على بناته فقط قاصدا بذلك أن يحرم بعض الورثة مما بقى من ميراث البنات لأنه ليس له ولد ذكر يحجبهم ، إذا كان الآية السابقة توصى بإعطاء الأقارب المحرومين من الميراث بعض التركة فما بالكم بمن لهم حق الميراث؟.
ولئن كان الإنسان حرا فى حال حياته أن يتصرف في ماله تصرفا حلالا ، يعطى من يشاء ويترك من يشاء، سواء كانوا من الأقارب أم من غيرهم، وارثين أم غير وارثين ما دام لا يوجد مانع شرعي من التصرف .
فإن المندوب إليه أن يترك لورثته شيئا يرثونه من بعده إذا كانوا فى حاجة إليه ،كما يدل عليه حديث سعد بن أبى وقاص الذى رواه البخارى ومسلم حيث ذكر للنبى صلى الله عليه وسلم وهو يعوده فى مرضه أنه ذو مال كثير ولا يرثه إلا ابنة واحدة وهو يريد أن يتصدق بماله كله فقال "لا" قال: فالشطر أى النصف؟ قال "لا " قال فالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".
اقرأ ايضا: هل الحسد بالعين حقيقة؟
والرجل -كما فى السؤال -ترك لورثته ما يملك وحبسه على بناته، لكن حرم منه بعض أقاربه المستحقين، فما الذى حمله على ذلك؟ الأمر يرجع فيه إلى رعاية المصلحة، فإن كان يرى أن بناته فى حاجة إلى الرعاية وأن أقاربه فى غير حاجة إلى شىء من الميراث ويخشى عليهن عدم عطف الأقارب عليهن فلا مانع من ذلك، أما إذا كان نصيبهم وهو الثلثان يكفى لعيش كريم وأقاربه فى حاجة ماسة إلى نصيبهم فى الميراث فإن هذا التصرف يكون مكروها ، لأنه يورث عداوة بينهم وبين بناته ، والكل تجمعهم أسرة واحدة يراد لها أن تسود فيها روح المحبة والتعاون .
ومهما يكن من شى فإن تصرفه فى حياته بالبيع أو الهبة لبناته نافذ. ومنع وارث من حقه لا يكون إلا بعد الموت، وذلك قياسا على تفضيل بعض الأولاد على بعض فإن جميع الفقهاء قالوا: إذا كان هناك مبرر معقول يقره الشرع فلا مانع منه، أما إذا لم يوجد هذا المبرر فإن التفضيل يكون مكروها غير حرام عند الأئمة الثلاثة، ويكون حراما عند الإمام أحمد، ويمكن اعتبار النية في هذا الموضوع، فالأعمال بالنيات، ولكل أمرئ ما نوى كما صح في الحديث.