سحر "مقاهي المحروسة"
سألني صديقي عضو مجلس الشعب السابق لعدة دورات في عهد مبارك، والذي ما يزال يعتبر "المقهى" من الموبقات، عن السر وراء حزن قطاع كبير من المثقفين والمتعلمين، لإصرار الحكومة على استمرار إغلاقها، على الرغم من أنها لا تتعدى أماكن للعب الدومينو والطاولة، وتناول الشاي والقهوة والأرجيلة.
لدرجة أن النائب السابق قال لي في دهشة: "قبل أن أطرح نفسي للترشح، كان ظني أنه لا يرتاد المقهى إلا العاطلين عن العمل، إلا أنه هالني في كل حملاتي الانتخابية، واحتكاكي المباشر بالناخبين لسنوات، أن أجد أغلب تجمعات ولقاءات الطبقة المثقفة على المقاهي، ولا أدري حتى الآن السر وراء ذلك".
سؤال صديقي النائب بالطبع جعلني أضحك بشدة، خاصة وأنه يعلم انني من رواد وعشاق "المقهى" مما جعله يعتذر مقسما بأغلظ الأيمان أنه لا يقصد شيئا، فقلت له ضاحكا: "لا تقلق يا صديقي، فأنا أفهم ما تعنيه تماما وألتمس لك كل كل العذر، لا لشيء سوى أنك لا تعلم مدى سحر وجمال وعبق جلسات "مقاهي المحروسة" ولم تقرأ عن تاريخها المشرف.
اقرأ أيضا: قادة الدم
قال: كيف؟.. قلت: يا سيدي لقد كانت "المقهى" وما زالت، التجمع الأول للآلاف من قادة الرأي والكتاب والمثقفين والسياسيين والفنانين، ومن داخلها تشكلت العديد من الحركات الوطنية، والأحداث السياسية المؤثرة في تاريخ مصر المعاصر.
لدرجة أن الإمام الراحل "محمد عبده" الذي كان أحد مرتادي "مقهى متاتيا" التي كانت تقع في ميدان العتبة، قيل عنه، أنه كان كان يمسك "الأرجيلة" بيده اليمنى، ويوزع الثورة بيده اليسرى" وهي ذات المقهى التي كان يرتادها "جمال الدين الأفغاني - ومحمود سامي البارودي - وسعد زغلول - وعبدالله النديم" وعديد من السياسيين الذين قُدّر لهم أن يلعبوا أدوارا بارزة وخطيرة في الحياة السياسية المصرية طوال القرن الماضي، وكان لها دور بارز في التحضير لثورة 1919، وبداخلها نمى الوعي السياسي والثوري للمئات من الشباب خلال تلك المرحلة.
كذلك الحال بالنسبة ل "مقهى ريش" التي شيدها النمساوي "بيرنارد تسينبرج" عام 1908، والتي تقع في شارع طلعت حرب بوسط القاهرة، وكانت في بداية القرن الماضي تحاكي مقاهي المثقفين في باريس، حيث شهدت العديد من الأحداث التاريخية الهامة، ولعبت دورا بارزا أيضا في أحداث ثورة 1919، حيث كانت تضم في طابقها السفلى "البدروم" مطبعة سرية كان يستخدمها الثوار في طباعة منشوراتهم لتحريض المصريين ضد قوات الاحتلال الإنجليزي.
اقرأ أيضا: قرارك فاشل يا سعادة الوزير
وقد شهدت مقهى "ريش" أيضا محاولة اغتيال "يوسف وهبة باشا" رئيس وزراء مصر في 15 ديسمبر 1919، كما اختبأ بها الرئيس الراحل "أنور السادات" عندما اتهم في قضية مقتل "أمين عثمان" وزير المال في حكومة الوفد عام 1946، وعليها خطط الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" لثورة يوليو عام 1952 مع رفاقه من الضباط الأحرار، وخرجت منها عام 1972 تظاهرة سياسية قادها الأديب الراحل "يوسف إدريس" احتجاجا على مقتل الروائي الفلسطيني "غسان كنفاني".
كذلك "مقهى الحرية" التي تقع في ميدان باب اللوق بوسط القاهرة، والتي أنشأت عام 1936 على أنقاض منزل الزعيم الراحل "أحمد عرابي" وكانت تجمع العشرات من السياسيين والمثقفين المصريين، ومن داخلها خرجت العديد من الأحداث السياسية الهامه في التاريخ المصري في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
كذلك الحال لـ "مقهى إيزافيتش" التي كانت تقع في قلب ميدان التحرير بالقاهرة، وكان يمتلكها لاجئ سياسي يوغسلافي، ، والتي شهدت انتفاضة الطلبة سنة 1946، والتي كانت احد نتائجها "حادثة كوبري عباس" الشهيرة، حين فتحت قوات الاحتلال الإنجليزي الكوبري أثناء مرور الطلاب المتظاهرين عليه، مما أدى إلى سقوط العشرات منهم في النيل، كما شهدت المقهى واقعة اعتصام الطلبة في 1971، الذين طالبوا في ذلك الوقت بمحاكمة المسؤولين عن نكسة عام 1967.
اقرأ أيضا: إثيوبيا تلعب بالنار
كذلك "مقهى أفتر إيت" التي تقع في في تقاطع شارعي وشمبليون بوسط القاهرة، وعرفت خلال ثورة يناير عام 2011 ب "استراحة الثوار" ولا تزال حتى الآن مرتادا لعشرات من المثقفين والسياسيين والشباب.
وكذلك "مقهى غزال" بشارع شامبليون، والتى تعد منذ سنوات أشهر ملتقى للصحفيين والكتاب والأدباء والفنانين بوسط القاهرة، نظرا لوقوعها بالقرب من نقابة الصحفيين، والعديد من المسارح والسينمات وقاعات الفنون التشكيلية والحرف التراثية.
و"مقهى زهرة البستان" التي تقع في شارع خلفي متفرع من شارع هدى شعراوي، يفضي إلى "مقهى ريش" وتعد أيضا تجمعا للعشرات من الكتاب والأدباء والفنانين.
اقرأ أيضا: حكاية شعب لا يخشى "كورونا"
و"مقهى الفيشاوي" التاريخية بمنطقة الحسين، التي كان يرتادها "نابليون بونابرت" وجلس عليها العشرات من الملوك والرؤساء وكبار السياسيين في مصر والعالم، منهم "أوجيني" إمبراطورة فرنسا عند مشاركتها في حفل افتتاح قناة السويس في عهد الخديوي إسماعيل.
و"مقهى وادي النيل" التي تقع وسط ميدان التحرير، وتطل على المتحف المصري، والتى استهدفها الإرهاب الأسود في عام 1993، وكانت حتى وقت قريب مرتادا لأدباء النوبة.
لعن الله "كورونا" ومن صنعها، ومن ابتلانا وابتلي بها العالم "صديقي النائب"، فقد حرمتنا متعة وروعة وجمال وسحر، جلسات "مقاهي المحروسة.