خالد منتصر بين التفكير والتكفير!!
قلت للأستاذ جمال البنا عليه رحمة الله إن الدنيا قامت ولن تقعد بسبب فتواك بأن التدخين لا يفطر الصائم؟.. ابتسم بهدوء وسألني: ماذا حدث؟.. قلت إن الفضائيات فتحت النار عليك طوال ليلة الأمس وأصبح اسمك على كل لسان.. الشباب منقسمون والرجال يلعنون والشيوخ وصلوا إلى حد رجمك، والناس تسأل عن صحة تلك الفتوى..
قال وهو محافظ على نفس ابتسامته: ولكنى لست مفتي الديار.. قلت كلاما بقصد أن يقرأ الناس وأن يعملوا عقولهم وأن يبحثوا وأن يتدارسوا وأن يقرأوا وطالما أن هذا حدث فإن مقصدي قد تحقق.
اقرأ ايضا: هبة حندوسة.. سيدة من مصر
تذكرت هذه الواقعة بمناسبة الجدل الدائر حول ما يطرحه بعض المفكرين والكتاب من آراء أتصور أنها جديرة بالدراسة دون التسليم بها، أو رفضها فمثل هذه الأمور تحتاج إلى نقاشات عميقة ومؤتمرات وندوات وكتابات متواصلة ومعارك فكرية لا يكون فيها إقصاء أو تهميش أو نفي أو تكفير، فالكائنات، كل الكائنات جبلت على الحرية، واستئصالها أو منعها أو مصادرتها إنما هو عمل ضد الطبيعة.
وطالما كان النقاش يحظى بأدبيات الحوار العلمي الراقي فإننا سنصل إلى نتائج إيجابية، أما الاجتزاء والتصيد فمن شأنه تحقيق أغراض وأهداف تيار الجمود، الذي أهدر الفرص تلو الفرص، على الأمة خصوصا وأن الثقافة السائدة تلتزم دوما بالمأثور القائل "الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح".. في مثل هذه الأمور الحتمية يبقى أن نفتح الأبواب.. كل الأبواب على مصارعها لإعادة إعمال العقل الإنسانى كأغلى قيمة وهبها الله للإنسان.
اقرأ ايضا: أردوغان.. بين المغامرة والمؤامرة
على سبيل المثال لا الحصر يحاول البعض المصادرة على ما يطرحه الدكتور خالد منتصر من آراء.. صحيح هو يطرحها بشكل يستطيع من خلالها البعض اجتزائها مثل قضية التعدد.. على سبيل المثال فإن قضية التعدد أخذت منحى آخر في دولة تونس ومن قاموا عليها علماء أجلاء لايمكن تكفيرهم أو الانتقاص من اجتهادهم.. يبقى أن يكون المجتمع قادرا على استيعاب الاجتهاد، إذ إن اجتهاد دون تقبل يصبح قرارا تمانعه العامة.
وخالد منتصر فيما قدمه للمكتبة العربية من مجموعة مؤلفات جدير بالدراسة والتفكر والتدبر بعيدا عن التنميط والاختزال المشوه.. قد تكون تلك الأطروحات مادة ثرية للنقاش العام بين العلماء والمفكرين وليس بالضرورة التسليم بها من باب احتكار الحقيقة والحق، ولكن من باب اللبنة التي يمكن البناء عليها في أفكار اجتهادية تصل بقناعاتها إلى الشارع، فهو الأصل من أي اجتهاد، وكفانا ما جرى ويجري على الساحة العربية من سيادة لونين دون غيرهما وهما الأبيض والأسود رغم ثراء عالم الألوان.
اقرأ ايضا: قصة "المجموعة لطفي"
سألت أية الله اختيارى أثناء زيارتي لإيران عن الاجتهاد في الحوزة الدينية فقال لي ندرس المنهج العلمي الذي اتبعه المجتهد في قضيته، فإن وافق مناهج البحث العلمى يبقى أن يجد هذا الاجتهاد صداه في نفوس الناس.. يطبع المجتهد قضيته ويوزعها على الناس فإن لاقى قبولا بينهم أصبح اجتهاده واقعيا ومفيدا فالقصد من الاجتهاد هو تسهيل حياة الناس ومواكبة العصر.
في مقدمة كتابه الثمين "عن الحرية أتحدث" يقول المفكر والفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود "منذ فتحت أبوابنا على حضارة العصر الجديد حين أدركنا -أوضح ما يكون الإدراك- أن فروسية المماليك -بكل ما تتصف به من براعة ومهارة- لم تنفعهم أمام فنون حربية هاجمهم بها نابليون في معركة الأهرامات، وهي فنون لم يكن لهم بها عهد من قبل..
اقرأ ايضا: العثمانية الجديدة.. فاشية العهد القديم
أقول إنه منذ ذلك اليوم، الذي لم يكن قد بقي بعده إلا عامان، ليبدأ القرن التاسع عشر، أصبحت القضية الكبرى التي واجهت كل ذى فكر وصاحب قلم في بلادنا،هي قضية الملاءمة الصحيحة بين ما كنا قد ألفناه قبل ذلك من صور الحياة وما جاء به ذلك الوافد الجديد".
هذا الكتاب الذي صدر في منتصف الثمانينيات لا يزال صالحا حتى اليوم لتوصيف ما يجرى على أرض واقعنا الذي نبنيه على الشك فيما يطرح أو الرفض دون مبررات يمكن اعتبارها منطقا تبنى عليه حياة الأجيال القادمة التي لا تزال ترزح تحت نير احتلال الجمود لساحة الفكر ووأده وتسليح المستقبل بالسيف والدرع والسهم فأصبح التفكير تهمة وأضحى التكفير عنوانا لكل أطروحة!!