عندليب الصحافة.. موهبته سر عذابه
موهبة الأستاذ كانت السبب الرئيس لاضطهاده، وتعرضه للظلم في العديد من المواقف.. يمكننا القول، بأريحية، إنه أكثر المواهب القلمية تعرضًا للمحاربة، وإنه لم ينل ما يستحقه من مكانة في بلاط صاحبة الجلالة، في الوقت الذي سبَّب فيه ما يشبه "العقدة" للكثيرين ممن شغلوا مناصب قيادية!
ولد عام 1924، بمدينة طلخا بمحافظة الدقهلية.. وتوفي في أغسطس 2009. حاولوا، كثيرًا، إيقاف مداد إبداعه بالمنع من الكتابة، لم يكن قد أخرج إلا النذر اليسير من مخزون موهبته، سعوا لقصف قلمه، جاهدوا لإجهاض أحلامه. لم تكن تجربته مع "الأحرار" فريدة من نوعها، أو خبط عشواء.. حين تولى رئاسة تحرير جريدة المعارضة الأولى في مصر، فوصل بتوزيعها إلى سقف الـ 100 ألف!!
اقرأ أيضا
نوال مصطفى فى حوار لا ينسى مع إحسان عبد القدوس
أقصوا عوض عن حب عمره "أخبار اليوم"، وهو ابن الخامسة والثلاثين، بعدما أثرى صفحاتها بالعديد من الخبطات التي ساهمت في تخطي توزيعها المليون نسخة.. صال وجال؛ عايش أنتوني كوين أسبوعا في نيويورك فأخرج منه نوادر أثنى عليه بسببها.. فند مزاعم إسرائيل حتى سأل قادة الكيان الصهيوني جنودنا الأسرى: هل يوزعون عليكم كتب محمود عوض في التوجيه المعنوي للقوات المصرية؟!
صادق الزعماء والرؤساء والملوك.. اقتحم خلوة "كوكب الشرق".. جلس مع طه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد حسن الباقوري، وكشف عن الوجه الحقيقي لعبد الوهاب. تقلد منصب نائب رئيس التحرير ولم يناهز الثلاثين.
حدث عام 1977 أن صدر قرار "محمود عوض يُمنع من الكتابة".. كانت تلك هي النتيجة أما عن الأسباب فتعددت الروايات.. على رأسها غضب السلطة من آرائه المعارضة لمفاوضات السلام مع إسرائيل. ولا ننسى خطورة الغيرة المهنية.
اقرأ أيضا
مصطفى أمين يكتب: عمل الصحفى تضحية وليس رفاهية
كان عوض كاتبا متجولا يسافر لتغطية شئون الأمم المتحدة، ويكتب عن الأحوال العالمية وتفاصيل المصريين بالخارج ويُلتقي بكبار المفكرين.. وسنحت الفرصة لرئيس مجلس الإدارة موسى صبري للتنكيل به من خلال ثغرة إدارية.. حيث اعتبر أن فترة سفره "غياب" فمن رأيه أن "عوض مجرد محرر لا كاتب مقال ولا يحق له التغيب عن العمل كل تلك الفترة".
اتجه لساحات القضاء مطالبا بعودته للكتابة، وفي 29 ديسمبر 1982 صدر له حكم بالتعويض بنحو "32 ألفا و420 جنيها"، ولم يُقبل استئناف مؤسسة الأخبار على الحكم، قبل أن تقرر محكمة النقض وقف تنفيذ حكم بالتعويض في الأول من مارس 1983، وبعد عام وخمسة أيام تلتها، حكمت "النقض" بإلغاء التعويض ضد موسى صبري وأخبار اليوم.
لم ييأس الكاتب المفصول فتقدم بطلب تعويض 50 ألف جنيه لأن موسى صبري بوصفه رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم، أوقع عليه جزاءً تأديبيًا مخالفا للقانون وحرمه من الكتابة، وحذف عمودا كان يكتبه أسبوعيا في صحيفة "أخبار اليوم".
اقرأ أيضا
دافع عن فلسطين ومات برصاص فلسطيني!
"عقدة محمود عوض" هو السبب الرئيس للاستبعاد، فعوض بدأ لامعًا جدًّا، واكتشف مصطفى أمين وإحسان عبد القدوس أن لديه قماشة من الإبداع. فهو الصحفي القوي والمؤرخ والكاتب صاحب وجهة النظر والباحث المميز فأفردا له مساحة كبيرة في سن مبكرة.. ربما ليخوض حربا بالنيابة عنهما!! خرج الكاتب الكبير من القضية صفر اليدين، بعد 11 عامًا بالتمام والكمال وتحديدا في الرابع من أبريل 1988.
كان عوض يحب مصطفى أمين على المستوى الشخصي والصحفي غير أنه لم يكن متبعا آراءه السياسية، فكان أبناء "أخبار اليوم" يحسبونه خارجا عن تقاليدهم، والرئاسة تراه ناصريا، والوفديون يضعونه في خانة اليسار "مكنش له تصنيف.. عنيد، صعب تطويعه.. هو صحيح من الدقهلية لكن مخه صعيدي".
اقرأ أيضا
كان القائمون على مؤسسة أخبار اليوم يتعاملون مع أمر عوض بطريقة "التهميش"، يحرمونه من العلاج على نفقة المؤسسة، وتكتب صفحتها الأولى عقب رفض طلب التعويض عنوانا: "المحكمة تبرئ موسى صبري من دعوة أحد الصحفيين بالتعويض"، وقتها انتقدت مجلة "روزاليوسف" الإشارة لعوض كمحرر صغير، ونشرت افتتاحية دفاعا عن الكاتب الكبير جاء فيها: "القضية بين زميل له اسمه. الأستاذ محمود عوض وبين إحدى المؤسسات".
بعد استبعاده من "الأخبار" لم يتوقف عندليب الصحافة عن الكلمة، يطّلع يوميا على مطبوعات صاحبة الجلالة.. "مفيش ورقة بتخرج من مطبعة في بر مصر إلا ولازم يقراها". لا يكتفي بالداخل، تمكنه إنجليزيته المتقنة من متابعة الشأن الخارجي.. يستقصي وراء المعلومات، لا يترك لأذنه الحكم.
اقرأ أيضا
المستشار عمر.. "حدوتة مصرية" في قلب أفريقيا
منذ تعرض للمنع من الكتابة، وحتى انفتحت له أول نافذة وهى "الحياة" اللندنية، ليكتب فيها عام 1994، وتُنشر مقالاته في جرائد مصرية بالتزامن مع "الحياة"، مثل "العربي الناصري" و"المصري اليوم".. يضع محاذير في التعامل مع قضايا داخلية على صفحات إصدار أجنبي.. لا يريد أن يشعر بأنه يُشهِر بالداخل، بالإضافة أن يتوجه للقارئ العربي العام.. وكان مشروعه تفنيد مزاعم الصهاينة وإظهار وجههم الحقيقي.
مع موجة إصدار الصحف المستقلة في السنوات الأُول لمطلع الألفية كان اسم محمود عوض يتصدر الساحة.. كان يرى في الصحافة الخاصة المستقبل إذا لم تأكلها الرأسمالية، وأنها تتيح الإبداع الصحفي ولا تعتمد على "موظفين".
أكثر من عرض عربي لمحمود عوض برئاسة التحرير، قابلها جميعا بالرفض، على رأسها "الأنباء الكويتية"، و"الدستور" المصرية!! ومع مطلع عام 2005 بدأ يكتب عن الوضع الداخلي ضد "التوريث والتمديد والتطبيع".. وقال في حوار له مع الإعلامي عمرو أديب: "أحكم على جمال مبارك ودوره السياسي مما أراه وأفرق بين حقه كمواطن يشارك في الحياة السياسية وبين كونه ابن الرئيس.. أصدق جمال مبارك في الساعة الثامنة ولا أصدقه في الثامنة وخمسة".
اقرأ أيضا
الصحفي الثائر.. صاحب نشيد "بلادي"
المرض ثم الموت، وحدهما، هما ما حالا بينه وبين العودة إلى عشقه الأول والأخير.. الكتابة!! حيث توفي بعد صراع مع المرض عاشه وحيدا في منزله، واكتشفت وفاته بالصدفة، حيث تأخر عن تسليم مقاله الأسبوعي لـ "اليوم السابع"، الجريدة حديثة الصدور فتوجه مندوبها إلى منزله بالقرب من جامعة القاهرة لتسلم المقال بعد محاولات فاشلة للاتصال به هاتفيا.
لكن المندوب لم يجد من يجيب عليه في المنزل فعاد لصحيفته التي اتصلت بشقيقه الذي قام بكسر باب المنزل ليجد الكاتب الكبير جثة هامدة ويكتشف أنه توفي قبل يومين كاملين دون أن يدري أحد بوفاته!!