الصحفي الثائر.. صاحب نشيد "بلادي"
بالطبع كلنا يحفظ نشيد "بلادي.. بلادي"، لكن لو سألت عن مؤلفه، لقال لك البعض: مصطفى كامل.. ولأجابك آخرون: سيد درويش.. والإجابتان خطأ. مؤلف النشيد الوطني المصري، استمد كلماته من خطب الزعيم مصطفى كامل، ولحنه له سيد درويش، لكنه عاش في طيِّ النسيان حيًّا وميتًا..
الشيخ "محمد يونس القاضي" قال في آخر حديث له لجريدة "الأخبار" عام 1966: "أنا أعيش فى ضياع، أريد أن تمر أيامي بسرعة، أعيش الآن تائهًا، صرفت كل ما أملك على الأدوية والعلاج، الخوف من الأيام يطاردني، إن آلامي من الناس فاقت كل ما تجمع فى جسدي من آلام".. وحينها كان يعاني من ثالوث شديد القسوة، هو: المرض والفقر والتجاهل!!
وُلد "يونس" في 1 يوليو ١٨٨٨، بحي الدرب الأحمر بالقاهرة، وانتقلت أسرته المكونة من ٩ أطفال وأم وأب يعمل فى القضاء، إلى مركز أبو قرقاص بالمنيا، والتحق بمدرسة الشيخ محمود عمرو، وكان والده يُقيم ندوة أدبية كل يوم جمعة بعد الظهر يحضرها وجهاء المحافظة، يتبادلون فيها الشعر والزجل، وكان يمتلك مكتبة تضم آلاف الكتب، وكان يونس يجلس فى الندوة ويسجلها كسكرتير، ومن هنا بدأت هوايته للشعر والأدب.
اقرأ أيضا: "ابوفاشا".. شاعر الاذاعة فى عهدها الذهبى
وفي عام 1900، عندما أتم «يونس» 12 عاما، انتقلت أسرته إلى أسيوط، حيث مسقط رأس والده في قرية النخيلة بمركز أبوتيج، وهناك استكمل القاضي تعليمه الأساسي، الذي ما أن أتمه حتى سافر وحده إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر، وحاول منذ أيامه الأولى الوصول إلى الصحافة، وذهب للقاء الزعيم مصطفى كامل في الحزب الوطني، وقدم له أول مقالاته التى نشرت فى جريدة "المؤيد"، ليتولى يونس بعدها تبسيط خطب مصطفى كامل فى العديد من الصحف، كما شارك فى تأسيس ١٤ جمعية لتعليم فنون الخطابة، ونشط سياسيًّا فى الأزهر، وشارك فى ثورته الأولى عامي ١٩٠٨ و١٩٠٩.
خلال الفترة بين عامى 1905 و1942، كتب يونس آلاف المقالات الصحفية، وما يزيد على ألفي دور وطقطوقة وموشح، سجل أغلبها على أسطوانات بأصوات كبار مطربى ذلك العصر، مثل: "منيرة المهدية" و"زكى مراد" و"عبداللطيف البنا"، إلى جانب أعماله المسرحية التي تعدت ٥٨ مسرحية غنائية اجتماعية وفكاهية، ذات محتوى سياسي، كانت تؤدي فى الكثير من الأحيان إلى خروج الجمهور فى مظاهرات ضد الإنجليز بعد العرض، ووصل الأمر إلى أن أوقف الإنجليز عرض مسرحيته "كلها يومين" ١٧ مرة، لأنها تحمل عبارات عنيفة ضد بريطانيا، كما تم اعتقاله ١٩ مرة.
كانت بداية علاقة الشيخ يونس بسيد درويش بداية لمرحلة جديدة فى حياة كل منهما، فقد قدما أجمل الأغنيات الوطنية والعاطفية، مثل: "زورونى كل سنة مرة"، و"أنا هويت وانتهيت"، و"أهو ده اللى صار"، ولهذه الأغنية سر، فقد اعتقل الإنجليز، ذات مرة، الشيخ، فقابله نجيب باشا وكيل الداخلية، وأمسكه من جبته وقفطانه، وقال له: "بدل ما تقول الكلام الفارغ ده دوّر الأول إزاى تصنع جبة وقفطان فى بلدك"، فكتب الشيخ: "مالكش حق تلوم عليّا، وخير بلادنا ماهوش فى إيدنا، وبعدها لوم عليّا، إيدك فى إيدي نقوم نجاهد، والأيادي تكون قوية، سعدك أصيل والخصم عايب.. دولا أنصار القضية".
واقرأ أيضا: "مكرم عبيد".. دور وطنى خالد
حين منع الإنجليز ذكر اسم سعد زغلول ورفاقه، كتب محمد يونس القاضي أغنية "يا بلح زغلول"، ليغنيها الفلاحون في موسم حصاد البلح، وتحايل على القانون، فراح يذكر كلمة سعد وزغلول فى كل أغنية ومسرحية يكتبها.
تم تعيين يونس القاضي كـ "رقيب على المصنفات الفنية"، وكان هو أول من تولى ذلك المنصب، الذي طُلب منه كخدمة لأحد أصدقائه فى جهاز الداخلية، وكانت مهمته تقتصر على منح التصاريح لإجازة الأعمال الفنية، وقام القاضي بتنقية الأغنية المصرية من كثير من الأعمال الرديئة، حتى أنه منع طقاطيق كان هو شخصيًا كتبها لمنيرة المهدية، وزكريا أحمد.
في عام 1969، توفى المبدع "محمد يونس القاضي"، بعد معاناة طويلة مع المرض، ولكن رحيل جسده، لم يمنع كلماته من أن تبقى حية في قلوبنا حتى اليوم، رددها جيل بعد جيل، ومطرب بعد مطرب، فظل القاضي حاضرًا كلمة وأغنية، وغائبًا اسمًا وحقًّا.