رئيس التحرير
عصام كامل

حكايات السادات في الرواية.. خيري شلبي يجسد ملحمة بطل الحرب والسلام في «ثلاثية الأمالي»

الرئيس الراحل السادات
الرئيس الراحل السادات

"ظلوا طوال عمرهم يقرأون شهادات المثقفين، فلعله قد الآوان لأن يستمعوا إلى شهادات العامة من أفواه المواطنين".. حينما كتب القاص المصري، صاحب الكلمات الريفية منزوعة الشوائب، والزخارف الكاذبة، الأديب المصري "خيري شلبي"، في الصفحات الأولى من الجزء الأول بملحمته الأدبية "ثلاثية الأمالي"، كانت إيذانا بصرخة سيطلقها شلبي من خلال شخصية "حسن أبو ضب" بطل الرواية والقابض على "الربابة" يتغنى بسير الأولين والآخرين، على مدار ثلاثة أجزاء، تتشابك أحداثها وتتداخل، من شاب صعيدي فقير يعمل في القاهرة باليومية وتتقاذفه أيادي الفواعلية وبائعي السمك وتجار "الصنف"، إلى أن يزج به في السجن، ثم يهرع إلى الجبل يأويه ويلقي فيه بذرة تاجر الآثار والبرلماني اللامع، وصفي رئيس الجمهورية الأثير وعضو حزبه الوليد آنذاك، والفقيد حاليًا "الحزب الوطني".


السادات
من خلال حسن أبو ضب، وبلسانه، يرسم لنا الراحل خيري شلبي، وتحديدًا في الجزء الثالث من الثلاثية، والذي يحمل عنوان"وثالثنا ولد"، ملامحًا وأبعادًا لشخصية يبدو أن التاريخ حتى يومنا هذا يقف عاجزًا عن الإتيان بمثلها، إعمالًا للمثل الشعبي القائل "خرطه الخراط ثم تمدد ميتًا!"، ضابط بالجيش المصري، ثم سياسي لامع، ثم خطيب إذاعي مفوه وثوري مخضرم، ثم حاكم، ثم مقاتل ومهاجم وراعِ للسلام، وأخيرًا ذبيحًا فوق مذبح التاريخ.. إنه الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بكل ما تحمله ملامح الإثنا عشر عامًا التي أمسك فيها بقبضة الحكم، من قرارات وسياسات تتنافر حينًا وتتجاذب أحيانًا كثيرة، فهو في البداية ظل لسلفه الراحل جمال عبد الناصر وثورته، ثم ثائر على ثورته!، قارعًا إياها بما أسماه في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي "ثورة التصحيح"، داعيا إلى المد الاشتراكي، حالمًا بالديموقراطية والإنفتاح على كافة نوافذ العالم ودروبه.

حادث المنصة
كل هذه الأمور تجعل سبر أغوار الرئيس أنور السادات، ضربًا من ضروب المستحيل، كأنها منطقة "مُلغمة" يصعب الولوج إليها، وإلا احترقت الأصابع النابشة الباحثة عن وجه حقيقي لتلك "الأسطورة"!، ولكن كل هذا لم يمنع شلبي من خوض المغامرة، ليصبح جزء الأمالي الأخير، ما هو إلا استعراضًا أدبيًا وتأريخًا قصصيًا، لفترة حكم السادات، بدايةً من توليه الحكم مرورًا بثورة التصحيح وحرب أكتوبر، والفتك برجال عبدالناصر، معاهدة السلام، والتمدد الإسلامي، وحتى اغتياله في حادث المنصة الشهير، وفيما يلي نستعرض صورة السادات والمجتمع المصري في فترة حكمه، ليس بقلم محمد حسنين هيكل ولا سجالات موسى صبري ومصطفى أمين، إنما بعبارات الأديب "خيري شلبي" البسيطة حد التعقيد، والخفيفة على اللسان حد العجز عن النطق بها!.

ثورة يوليو
"ثورة يوليو بالنسبة للسادات وسيلة لاستكمال الأبهة، من أجل أن يحقق النفوذ والعزة، وأنه إذا وجد مصادر أخرى يحقق بها ذلك سيلقي بالثورة إلى أقرب مقلب قمامة"، قد تبدو هذه الكلمات وكأنها ضمن عمود يومي، في إحدى صحف المعارضة في سبعينات القرن الماضي، تخطها يدا "جهبذ" من جهابذة المعارضة المصرية في تلك الفترة، إلا أنها في حقيقتها عبارات ينقلها "حسن أبو ضب" عن صفيه ونبراسه السياسي والمجتمعي "بربش". ففي الأمالي، يظهر سادات الاشتراكية الثورية، رجل مزدوج المعايير يقفز فوق آمال تركتها ثورة يوليو في نفوس المصريين كذريعة، للوصول إلى عالم "البيزنس" الذي تتجلى ملامحه طوال خط الرواية في شخص وجه السادات الآخر "محمد بك أبوشناف"، وكأن كل حركة وساكنة يأتي بها السادات طوال فترة حكمه، يرمي خلالها إلى "الثراء الواسع والسريع". السادات أيضًا استخدم الثورة كأسباب شرعية لبقائه، فالحزب الحاكم يحكم باسم ثورة يوليو وهو في حقيقة الأمر يقوم بتدميرها. يصف شلبي السادات بـ "العقرب" والذئب الذي "تغدى" بأذناب مجلس قيادة الثورة ورجال عبدالناصر، قبل أن يتعشوا هم به.

عصر سبهللة
"عصر أنور السادات سبهللة.. عصر يابخت من نفع واستنفع".. تحت هذه العبارة العريضة، يحتل المجتمع المصري إبان حكم السادات، حيزًا كبيرًا في ملحمة الأمالي. حين انحرف شلبي عن الخط الروائي الأدبي، وبات جلادًا ممسكًا بسوط غليظ يجلد به أبناء مجتمع، أصبح الفساد ينخر في جنباته، على كافة المستويات، السياسية والاقتصادية والدينية، وخاصة الدينية، حيث ميلاد إسلام جديد لم تعهده مصر من قبل وهو الفكر "الجهادي". فثمة برلماني يستخدم حصانته في تمرير صفقات أغذية فاسدة داخل الدولة، في غياب تام لأية سلطة أو رادع ديني أخلاقي. 

في مجتمع تسلل "النفط" إلى أركانه، تصدعت أسسه، وأصح هو الولي الأعلى والإله الذي يسبح بحمده الفقير قبل الغني، ليصبح شغل الشعب الشاغل هو أن يأكل لا يهمه إن كان هذا الطعام من عمل يديه، أو مستورد من بلاد النفط ومعاهدات السلام، فيقول شلبي على لسان أبو ضب "الشعب يريد أن يأكل لا يهمه هل سيصيبه هذا الطعام بالفشل الكلوي أو الالتهاب الكبدي".

حاشية السادات
لحاشية السادات نصيب الأسد في الرواية، فبطلها الأول ومحورها الأساسي، والذي كان بمثابة المرشد الذي يأخذنا من أيدينا يلقينا في تلك الفترة، لتقذف بنا لأخرى، "حسن أبو ضب" من أبناء الحزب الحاكم "المدللين"، وصف أبو ضب نفسه وأعوانه من أبنا الرئيس بأنهم"سُبة في جبين السادات، التفت حوله ومكنته من الاستقرار واستيعاب الكرسي، دفعته ميوله الشخصية نحو هذه الفئات النهمة، الرغبة في الثراء والتحرر من قيود اتحاد قوى الشعب العاملة والتسعيرة الجبرية، وسياسات التقشف، لنجده ينفث عن ميوله تلك من خلال انعكاسه الآخر "محمد بك أبو شناف"!

الإخوان
لم يغفل حسن أبو ضب، أبناء السادات المدللين "الإخوان" والذين تنبأت الشيخة سعادة، عرافة الثورة، بأن نهايته ستكون على أيديهم، حينما قالت لمحمد بك أبو شناف "الوجه الآخر للسادات"، ستقتل في لحظة غدر وفي وقت غير متوقع وغير مرغوب"، لنفاجأ في نهاية الرواية أنها تحدث السادات وليس أبو شناف، رجل البزنس وتاجر الآثار.

وصف شلبي الإخوان بأنهم الأبناء الذين انقلبوا على والدهم، فحينما أخرجهم من سجون عبد الناصر عقب اعتلائه كرسي الحكم، ليضرب بهم رجال عبد الناصر، وشباب الأحزاب اليسارية، التي جلبت له الهزائم، وخلخت الكرسي أسفله، فأصبحت الصورة المصدرة في المجتمع أننا حينما سرنا وراء الفكر الشيوعي الإلحادي هُزمنا في 1967، لكننا حينما اتبعنا طريق الله وسرنا خلف الرئيس "المؤمن" أيدنا الله بنصره.

القوة
"القوة".. سمة ظلت مسيطرة على السادات طوال احدا الرواية، ففي جديته قوي، وفي ساعات السمر مع عضو حزبه "الحزب الوطني"، المفضل حسن أبو ضب، حينما كان يلقي عليه النكات، يضحك بحكمة وروية ومكر يثب من عينيه، بقي السادات يقرع رءوس قراء خيري شلبي حتى انتهت الرواية باغتياله في حادث المنصة، والتي وصفها الراوي "حسن أبو ضب" الذي كان جالسًا في الصف الثالث ليشاهد أبناء الشيخة سعادة "عرافة" الثورة والأم الحنون لقيادتها بما فيهم السادات ذاته، وهو يفرغ مسدسه الآلي في رأس السادات الحاكم، أو محمد بك أبو شناف رجل البيزنس والثراء الفاحش!
الجريدة الرسمية