بالصور.. في رحاب السيد البدوي (4).. حكاية السادة والعبيد في ساحات الصوفيين.. أسباب اختزال التصوف في الغناء والرقص.. وحقيقة تحول «الساري الأحمدي» إلى مدينة ملاهي
مازلنا نواصل نشر سلسلة حلقاتنا التوثيقية: «في رحاب السيد البدوي»، والتي نوثق فيها توافد مئات الألوف من أبناء الطرق الصوفية إلى مدينة طنطا التابعة لمحافظة الغربية، للاحتفال على مدى سبعة أيام بدأت في الرابع عشر من أكتوبر المنقضى وحتى الحادي والعشرين من ذات الشهر بمولد شيخ العرب؛ نقلنا في حلقاتنا الثلاث السابقة تأكيدات بعض المريدين أن دولة أولياء الله أو الدراويش - حسبما أطلقنا عليها - تحكم مصر، ووقفنا على حقيقة إحياء السيد البدوي الموتى؛ ساردين سيرته الذاتية منذ مولده وحتى بلوغه الثامنة والثلاثين من عمره، ورصدنا طقوس «الزفة» داخل المسجد الأحمدي، و«مليونية الحب» أحد أهم ثوابت الاحتفال بختامية مولد أبي الفتيان.
اقرأ أيضًا:
دولة الدراويش تحكم مصر
واقرأ أيضًا:
حقيقة إحياء شيخ العرب الموتى
واقرأ أيضًا:
مليونية الحب تجوب شوارع طنطا
نستكمل في حلقتنا الرابعة توثيق الساعات المتبقية من مساء الخميس الحادي والعشرين من أكتوبر، الليلة الختامية لمولد السيد البدوي؛ نسلط الضوء على مظاهر التفخيم والإجلال التي يحيط بها بعض مشايخ الصوفية أنفسهم وكأنهم السادة وما دونهم العبيد، ونقارن بين هؤلاء وغيرهم ممن وهبوا أنفسهم خدامًا للوافدين على المولد، ونسرد الأسباب التي جعلت السيد البدوي يختار مدينة طنطا مركزًا لطريقته الأحمدية، ورفضه الذهاب إلى القاهرة أو الإسكندرية.
السادسة والنصف مساء كان توقيت خروجنا من ضريح السيد البدوي وجلوسنا على إحدى المقاهى المجاورة لساحة المسجد الأحمدي.
ما زال مشهد الأيادي المتعلقة بمقصورة الضريح طلبًا للمدد والبركة
عالقًا في خاطري، وجميع ما سمعناه من عبارات المريدين المغلفة بفيوضات
الحب ودعاء النسوة بقضاء الحاجات وتوسل غيرهم إلى الله بأعمال شيخ العرب
الصالحة وقرع الدفوف والأناشيد والقصائد يتردد صداه في أذني، وآثار التزاحم
والتدافع الذي عانينا منهما لأربع ساعات متواصلة لم تغادر روحي التي شعرت
بالإجهاد ونفسي التي أحست بالضيق الذي لم أقرأه على وجوه الصوفيين المنتشين
بفرحة التواجد داخل الضريح وكأن الزائر منهم حيزت له الدنيا بما فيها.
ووسط كل هذه الخواطر كنت مشغولًا بأمر الشيخ سعيد - مرافقنا في رحلتنا
التوثيقية – والذي لم يحضر بعد، وعلى غير عادته أخلف وعده الذي أبرمناه معه
بلقائنا في الحادية عشرة صباحًا، وحتى هاتفه رفض على مدى ساعات اختفائه
المفاجئ تبديل عبارته المستفزة: «حاول الاتصال في وقت لاحق».
فوق المقهى الذي كان يتوسط مجموعة محال لبيع الحلوى، لم يتغير المشهد؛ العشرات ما زالوا كما رأيناهم منذ الصباح مصطفين في طوابير لشراء احتياجاتهم؛ تدافع في الداخل وتزاحم في الخارج وسيل من الأسئلة يعصف برأسي: لماذا يتحمل الصوفيون كل هذا العناء؟، وكيف يطيقون صبرًا على الزج بأجسادهم وسط آلاف المتزاحمين داخل حجرة لا تزيد مساحتها عن عشرة أمتار على أقصى تقدير؟، ألا يخشى الواحد منهم أن يسقط تحت الأقدام المتسارعة فيدفع حياته ثمنًا للظفر بنفحة مدد أو بركة؟، ثم ما الهدف الذي يدفعهم للمجيء من بقاع مترامية البعد للمشاركة في احتفال أيًا كانت قدسيته فهو في النهاية مجرد حدث قد لا يستحق تحمل عناء السفر؟، وما النفع العائد عليهم من وراء ما يفعلون؟؛ أهو الحب والاحتفاء بمن لهم أيادي فضل وإحسان - كما يؤكدون- أم هو الربح وتحقيق المنفعة الدنيوية؛ وهل لو لم يقيموا مثل هذه الاحتفالات ستسقط المكانة الروحية لمشايخهم؟
جلوسنا بالمقهى كان فرصة سانحة لالتقاط الأنفاس التي تسارعت واسترداد العافية التي أنهكت من كثرة الركض داخل ضريح السيد البدوي؛ وبمجرد شعورنا بالتحسن يممنا وجوهنا إلى محطتنا التالية، الخيام والسرادقات المقامة في الأزقة والشوارع المحيطة بالمسجد الأحمدي، والتي كنا على شغف لمعرفة ما يحدث بداخلها وكنا نظن أنها ستخلو من حلقات الذكر لأن المريدين - كما قيل لنا - يهجرونها لحضور حفل الشيخ محمود ياسين التهامي والذي يبدأ في ساعات المساء الأخيرة.
دلفنا في طريقنا إلى أكثر من سرادق، وداخل كل واحد منها وجدنا عكس ما قيل لنا؛ حلقات ذكر تعج بالمتمايلين، تهدأ فيها وتيرة التمايل تارة وتصل لذروتها حتى تشعر أن أجساد الدراويش تتداخل في بعضها البعض تارة أخرى، وفي سرادقات أخرى جلس المريدون يستمعون إلى تلاوة قرآنية مباركة أو يتلقون درس علم يدور في فلك التمسك بالوسطية والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ورفض التشدد بكل صوره؛ بالإضافة إلى سرد تاريخي لمناقب أعلام التصوف.
قادتنا أقدامنا للسير في شارع جانبي يبعد مسافة تقارب 500 متر عن المسجد الأحمدي، وبداخله وجدنا بالصدفة - منذ أن اختفى مرافقنا الشيخ سعيد وسيرنا تحكمه الصدفة – حلقة ذكر يتمايل فيها قلائل لا يزيد عددهم عن الثلاثين شخصًا على أقصى تقدير، والمنشد الذي دلتنا لهجته ولون بشرته وثيابه البيضاء أولًا ثم تأكيد المتواجدين على جنسيته السودانية، يتغنى بقصيدة يقول مطلعها: «البدوي يابوي يا مدد يابا.. غنيتله بشوق وصبابة.. وبقيت ولا عاشق بربابة»؛ وعرفنا أن هذا السرادق المتواضع أقامه متصوفة السودان الذين قدموا إلى مصر للمشاركة في الاحتفال بمولد السيد البدوي.
في الشارع المقام به سرادق الأخوة السودانيين، لفت انتباهنا كثرة الأعداد الوافدة إلى زقاق صغير مواجه له والذي كان ضيقًا للحد الذي جعله لا يسع مرور ثلاثة أفراد متجاورين؛ وعلى الفور ذهبنا خلف الوافدين إليه لنرى إلى أين يذهب كل هؤلاء؟؛ وفي منتصف الزقاق وجدنا لافتة تعلو مدخل أحد السرادقات دونَ فوقها اسم مستشار إحدى الطرق الصوفية مذيلة بعبارة: «يرحب بكل أحباب المصطفى وزوار آل البيت»؛ السرادق كان فخمًا للحد المبالغ فيه وزواره ينعمون بكل ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات بالإضافة إلى وصلات الإنشاد التي لا تنقطع؛ ولعل عبارة زميلي محمد متعب: «عندهم حق يسيبوا السودانيين الغلابة، ويجوا هنا يتمتعوا»، وصفت بدقة السبب في كثرة عدد الزائرين لهذا المكان.
مستشار الطريقة أو صاحب السرادق الفخم، كان محاطًا بهالة من التفخيم والإجلال لم نر مثيلًا لها بين المشايخ الذين التقيناهم في رحلتنا؛ انطباعي الذي كونته عن الرجل أنه نصب من نفسه سيدًا وما سواه عبيد ، وقد أكون مخطئًا وتكون شخصية الرجل الذي لم نتبادل معه أطراف الحديث عكس ذلك؛ ولكننا رأيناه إذا أراد شيئًا أمسك عن الكلام وسلط ضوء مصباح صغير يحمله في يده على شباب بعينهم وسعيد الحظ الذي يخترق «الليزر» جسده يسارع إليه وينحني أمامه ثم يغادر ويعود بعد قليل حاملًا زجاجة ماء أو كوب قهوة أو شاي أو طبق ملئ بالطعام؛ وأمام هذا الفعل الذي تكرر أكثر من مرة سألني زميلي أحمد سليمان: هو التصوف مش زهد وتواضع ولا أنا فاهم غلط؟ أجبته: التصوف كما قلت يا صديقي، زهد وتواضع يسبقهما التحلي بالأخلاق الحميدة؛ أردف: أنا شايف إن الغلابة الكتير في جميع محافظات ومدن مصر أولى بالفلوس اللي بتتصرف على المظاهر الكدابة دي؛ وافقته الرأى مستدلًا ببيت شعر لأحد أعلام المتصوفة:
كل يدعي وصلًا بليلى.. وليلى لا تقر لهم بذاك
زميلي أحمد، رأى أن مثل هذه التصرفات هي التي جعلت غير المتصوفيين يختزلون التصوف في الغناء والرقص فقط؛ قائلًا: لا يهمني إذا كان مستشار هذه الطريقة من الصالحين أم لا؛ أنا شايف إن مظاهر البذخ والإسراف المبالغ فيه مرفوضة؛ ودعني أقارن بين ما نشاهده الآن وبين ما رأيناه بالأمس داخل ساحة الطريقة الشناوية الأحمدية، حين عرَف الشيخ محمد جمال الدين، نفسه بأنه خادم الطريقة وليس شيخها؛ قائلًا: كلنا عند آل بيت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خدام ودراويش؛ ورغم أن الساحة كانت مكتظة بالنخبة إلا أننا ظننا أول الأمر أنهم أشخاص عاديين من شدة تواضعهم ثم ما لبثنا أن عرفنا أن أحدهم أستاذ دكتور بجامعة المنصورة والثاني أستاذ دكتور بجامعة الأزهر والثالث خبير سياحي والرابع رجل أعمال وغيرهم ممن لم نلمس فيهم إلا تحليًا بالأخلاق وتمسكًا بالزهد والتواضع.
«أحمد» ذيل حديثه بأبيات شعر ذكرها لنا الشيخ محمد جمال الدين، داخل ساحة الطريقة الشناوية الأحمدية، نقلًا عن العلامة ابن الحاج المكي، حين وصف التصوف بقوله:
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه.. ولا بكاؤك إن غنى المُغنونا
ولا صياح ولا رقص ولا طرب.. ولا اختباط كأن قد صرت مجنونا
بل التصوف أن تصفو بلا كدر.. وتتبع القرآن والحق والدينا
وأن تُرى خاشعًا لله مكتئبًا.. على ذنوبك طول الدهر محزونا
قطع حديثنا جرس هاتفي الذي ظهر فوق شاشته اسم الشيخ سعيد - مرافقنا في رحلتنا التوثيقية – الذي غاب عنا منذ الحادية عشرة صباحًا؛ أجبت على الفور: أخيرًا ظهرت يا شيخ؟، قال: كنت محجوزا في المستشفى ولسه خارج بعد ما رجع الضغط والسكر لمعدلاتهم الطبيعية، وأنا الآن أمام المسجد الأحمدي.. أنتوا فين؛ وصفت له مكان السرادق الذي نقف فيه وفي وقت محدود كان بجوارنا، وبعد الاطمئنان على صحته وتمنياتنا له بدوام العافية سألته: هي أماكن الاحتفال مقتصرة فقط على ساحة المسجد الأحمدي والشوارع المحيطة به؟؛ أجاب: لأ طبعًا؛ في مكان اسمه الساري الأحمدي والبعض يطلق عليه المدينة الأحمدية والبعض الآخر يسميه «سيجر»؛ وهو المكان الأساسي الذي أقيم فيه أول احتفال بمولد السيد البدوي وكان جميع المتوافدين على المولد يقيمون خيامهم وسرادقاتهم فيه ويأتون هنا لزيارة الضريح ثم يعودون إلى هناك مرة أخرى منعًا للتكدس والتزاحم الذي يحدث الآن، إلى أن تغير الوضع وأصبح الاحتفال الرئيسي يقام بجوار ضريح شيخ العرب؛ قلت: والساري الأحمدي فيه إيه حاليًا؟؛ قال: ممكن تعتبره مدينة ملاهي؛ أردفت: طيب يالا بينا نروح هناك.
وسائل المواصلات المتوفرة لنقل زوار المولد من ساحة المسجد الأحمدي إلى «سيجر» مكان الاحتفال القديم، هي عربات «الكارو» فقط، وليس هذا لصعوبة وصول التاكسي أو الميكروباص أو حتى الـ«توك توك» إلى هناك، ولكن لأن أهل طنطا يحافظون من خلال التمسك بهذه العادة على أجواء الاحتفال القديمة والتي كان يأتي وقتها الزوار إلى المدينة ممطتين الجمال والخيول ، حسبما أكد لي الشيخ سعيد، الذي سألته: هي المسافة من هنا للساري الأحمدي بعيدة؟؛ أجاب: أبدًا دي كلها عشر دقائق بالكتير؛ قلت: يبقى نمشيها.. المشي رياضة يا شيخ سعيد.
في طريقنا إلى سيجر أو الساري الأحمدي أو المدينة الأحمدية، أيًا كان المسمى، عبرنا نفق سعد زغلول الذي يقف في نهايته تمثال زعيم ثورة 1919 شامخًا فوق قاعدته الحجرية؛ ووجدت في الترجل فرصة سانحة لأسأل مرافقنا: لماذا إختار السيد البدوي مدينة طنطا مركزًا لنشر طريقته الأحمدية ولم يذهب إلى القاهرة أو الإسكندرية؟؛ أجاب: السيد البدوي من أولياء الله الصالحين الذين أُختير لهم المكان؛ قلت: ومن الذي اختار له؟؛ قال: في مكة وبالتحديد أواخر عام 634 هجرية، رأى شيخ العرب في المنام هاتفًا يأمره بالرحيل إلى مصر، وحين تكررت معه هذه الرؤيا ثلاث مرات، وفي كل مرة كان الهاتف يخاطبه: سر إلى «طندتا» - اسم طنطا القديم - فإنك تقيم بها وتربي رجالًا وأبطالًا؛ شد شيخ العرب رحاله إلى مدينة طنطا ووصل إليها أوائل عام 635 هجرية؛ وكانت دار الشيخ ركين الدين أو «ابن شحيط»، الذي كان آنذاك شيخًا للبلد وصاحب نفوذ ومال وتربطه علاقة صداقة بالسيد البدوي تعود إلى لقائهما في مكة أثناء موسم الحج، هي أول دار نزل بها «صاحب اللثامين» وبقى فيها أربعين عامًا حتى وفاته ودفنه فيها عام 675 هجرية، وهى مكان ضريحه ومسجده الحالي.
وصلنا إلى شارع الترعة أول شوارع منطقة الساري الأحمدي؛ كانت أمواج الزوار تتدافع في المكان المكتظ بمحال بيع الحلوى والألعاب.
تركت الحاضر وأردت أن أقحم نفسي في الماضي؛ رسمت بذهني
صورة أرشيفية لشكل الاحتفال بالمولد قبل 763 عامًا، تخيلت الوفود قادمة إلى
طنطا من شبه الجزيرة العربية والدول الأفريقية والآسيوية، رأيت الجمال وقد
أناخها راكبوها والخيل وقد وضعت من فوق ظهورها السروج، شاهدت الخيام ترفرف
فوقها الرايات الحمراء، ولكني لم أقف من خلال هذا السيناريو التخيلي على
طقوس الاحتفال؛ لم أصل إلى إجابة سؤال ما زال يؤرقني: هل كان الصوفيون
الأوائل يقيمون حلقات الذكر ويتمايلون ويشترون الحلوى ويتدافعون على زيارة
الضريح كما يفعل الحاليون أم لا؟
جاوزنا زحام شارع الترعة ووصلنا إلى منطقة تسمى «سدر الخيم» وجدناها تشبه مدينة الملاهى كما سبق ووصفها لنا الشيخ سعيد؛ ومع ابتسامة الأطفال وسعادتهم بالألعاب عدت من جديد إلى الحاضر على صوت مرافقنا وهو يقول لي: ودي كانت قصة الجامعة التي أسسها شيخ العرب لتدريس الفقه وعلم السلوك؛ قلت: عذرًا يا شيخ سعيد ممكن تعيد اللي كنت بتقوله تاني؛ ابتسم قائلًا: أنت كنت سارح فين يا أستاذ؟؛ أجبته: فيما نحن فيه؛ فأنشد:
حاشى الرقيب فخانته ضمائره.. وغيض الدمع فانهَلًت بوادره
وكاتم الحب يوم البين منهتك.. وصاحب الدمع لا تخفى سرائره
ابتسمت: أنت فهمت غلط يا عم المتنبي، دعك من أوهامك وأعد على مسامعي ما كنت تحكيه؛ قال: بمجرد أن وصل السيد البدوي إلى طنطا، استأذن الشيخ ركين الدين في الإقامة فوق سطح الدار، لأنه يأنس بتأمل صنع الله من خلال إطالة النظر إلى السماء وما تحويه من نجوم وقمر وشمس، ووافق صاحب الدار تاركًا له حرية الإقامة؛ وفوق السطح أخذ المريدون والأتباع يلتقون شيخ العرب ومن هنا لقب بـ«السطوحي»؛ ومع تزايد وفود طلاب العلم أسس أبو الفتيان «جامعة الدعوة السطوحية الأحمدية» وهى أول جامعة علمية في طنطا وأرخ لها بالتفصيل الإمام الأكبر شيخ الأزهر الراحل الدكتور محمود عبد الحليم في كتابه «أقطاب التصوف»، وكانت جامعة لتدريس علوم الشرع والسلوك الصوفي وتخرج فيها أئمة وعلماء كبار، ومن فوق منبرها أعلن شيخ العرب دستور الطريقة الأحمدية: «طريقتنا هذه مبنية على الكتاب والسنة والصدق والصفاء وحسن الوفاء وتحمل الأذي وحفظ العهود».
اختار السيد البدوي من تلاميذ جامعته أربعين تلميذًا اختصهم بالقرب منه، وألبسهم اللثام والخرقة الصوفية والراية الحمراء التي اتخذها شعارًا لطريقته؛ وأفصح عن سبب اختياره لهذا اللون الذي يحمل معاني الفداء والتضحية في وصيته لخليفته الشيخ عبد العال: «أعلم أنني اخترت هذه الراية الحمراء لنفسي في حياتي وبعد مماتي، وهى علامة لمن يمشي على طريقتنا من بعدي»، وتتضح معالم الطريق حين سأل الخليفة عبد العال، شيخه: وما هي شروط من يحمل هذه الراية؟ فقال له أبو الفتيان: «شروطه أن لا يكذب، ولا يأتي بفاحشة، وأن يكون غاض البصر عن محارم الله تعالى، طاهر الذيل، عفوف النفس، خائفًا من الله تعالى، ملازم الذكر، دائم الفكر».
الساري الأحمدي، يستحق بجدارة أن يوصف بـ«المدينة»، فشوارعه متسعة العرض ممتدة الطوال يتحرك الزوار فيها بأريحية رغم أعدادهم الغفيرة، وتتجسد عبقرية مسئولي طنطا الراحلين في اختيارهم هذه المنطقة لتكون مكانًا للاحتفال بالمولد قبل 763 عامًا ، فالمراجع التاريخية تشير إلى أن تجارًا من الشام والهند وغيرهم كانوا يقدمون إلى طنطا أيام المولد لترويج بضاعتهم وهو ما كان يدر أموالًا طائلة على خزينة الدولة ويجعل من المدينة الصغيرة مركزًا اقتصاديًا عالميًا؛ ولكنها فقدت أهميتها الاقتصادية في العصر الحالي بعد أن قرر المسئولون نقل مكان الاحتفال بالمولد إلى ساحة المسجد الأحمدي.
وتجاه هذا القرار أحجم التجار أو
المستثمرون الأجانب - حسب وصف العصر الحديث - عن المجئ إلى رحاب شيخ العرب
بسبب التكدس والزحام في الشوارع الضيقة المحيطة بالمسجد والذي يكبدهم
الخسائر أكثر من جنيهم الأرباح؛ وسألت مرافقنا: لماذا لا يتخذ محافظ
الغربية الحالي قرارًا بإعادة الاحتفال بالمولد إلى الساري الأحمدي.. مكانه
القديم؟ قال: المحافظ لا يجرؤ على منع المحتفلين من البقاء في ساحة
المسجد.. قلت: ولكن هذا القرار لو صدر سيحدث رواجًا أكثر في حركة البيع
والشراء وينتعش نتيجة له اقتصاد محافظة الغربية لشهور مقبلة؛ أجابني
بإبتسامة ساخرة: القرار مش هو المهم.. الأهم الرؤية؛ وأعتقد أن المسئولين
هنا لا يقدرون الأهمية الاقتصادية والأرباح التي ستجنيها المحافظة من أيام
المولد السبعة إذا وفروا مناخ استثماري جيد.
داهمنا الوقت ونحن نتجول في الساري الأحمدي، أول مكان احتفل فيه الصوفيون بمولد السيد البدوي منذ 763 عامًا، ولأن الساعة قاربت على الحادية عشرة مساء كان لازامًا أن نقطع جولتنا لنعود إلى ساحة المسجد الأحمدي لنوثق حفل الشيخ محمود ياسين التهامي، ومن بعده استعدادات الاحتفال بالليلة اليتيمة والتي يشدو فيها الشيخ ياسين التهامي عميد الإنشاد الديني، وهو ما سننقله لكم في الحلقة الخامسة من سلسلة حلقاتنا التوثيقية: «في رحاب السيد البدوي».
داهمنا الوقت ونحن نتجول في الساري الأحمدي، أول مكان احتفل فيه الصوفيون بمولد السيد البدوي منذ 763 عامًا، ولأن الساعة قاربت على الحادية عشرة مساء كان لازامًا أن نقطع جولتنا لنعود إلى ساحة المسجد الأحمدي لنوثق حفل الشيخ محمود ياسين التهامي، ومن بعده استعدادات الاحتفال بالليلة اليتيمة والتي يشدو فيها الشيخ ياسين التهامي عميد الإنشاد الديني، وهو ما سننقله لكم في الحلقة الخامسة من سلسلة حلقاتنا التوثيقية: «في رحاب السيد البدوي».