رئيس التحرير
عصام كامل

بالصور.. «في رحاب السيد البدوي» (1).. 2 مليون و100 ألف زائر توافدوا إلى طنطا.. تفاصيل رحلة المريدين إلى ضريح شيخ العرب.. أحد الدراويش يؤكد: دولة أولياء الله تحكم مصر.. والتصوف روح مصر وهويته

فيتو

في الثالثة والنصف من عصر الأربعاء التاسع عشر من أكتوبر الجاري وقف ثلاثتنا.. أنا وزميلاي: محمد متعب وأحمد سليمان، فوق رصيف «3» بمحطة مصر، لا يكاد الواحد منا يسمع الآخر من كثرة الضجيج والتزاحم الذي لم نر له مثيلًا من قبل حتى في الأعياد؛ منتظرين مع كثير من البشر الذين لم نحصهم عددا، قدوم القطار لنبدأ رحلتنا إلى محافظة الغربية وبالتحديد مدينة طنطا، لتوثيق احتفالات مشيخة الطرق الصوفية ومئات آلاف من المريدين بمولد شيخ العرب السيد أحمد البدوي.. «سلطان الأولياء وإمامهم» كما يطلق عليه الصوفيون، والذي ضرب لإحياء ذكرى مولده موعدًا ثابتًا من كل عام يبدأ في الرابع عشر من أكتوبر وينتهي في الحادي والعشرين من ذات الشهر.


فوق رصيف رقم «3» شاهدنا عالما آخر.. امتزجنا فيه بأبناء الصعيد الذين أنبأنا عن موطنهم لهجتهم التي يتحدثون بها والجلابيب والعمائم البيضاء التي يرتدونها، وسمعنا أصوات بعض السيدات اللاتي وقفن بجوارهن حين كن يرددن: «شي لله يا شيخ العرب» مطلقات الزغاريد في كل مرة عقب الانتهاء من هذه الجملة، ورأينا حيل بعض الشباب لاستغلال الزحام والاحتكاك بالفتيات محاولين التحرش بهن.. وأخيرًا وبعد خمس عشرة دقيقة قدم قطارنا المنتظر، ولكنه كان مثل النهر مكتظًا بأمواج من البشر التي سال بعضها فوق المقاعد وتداخلت أجساد غيرهم متزاحمين في الطرقات وتعلقت البقية على الأبواب؛ وقائد القطار لا يكف عن إطلاق صفيره المزعج داعيًا الواقفين على الرصيف للغرق فيه.. وهنا قررنا العدول عن فكرة استقلال القطار والذهاب إلى طنطا، بواسطة سيارة أوصلتنا إلى رحاب سلطان الأولياء، بعد ساعتين من مغادرتنا القاهرة؛ لننقل لكم وعلى مدى سلسلة من الحلقات عنوانها: «في رحاب السيد البدوي»، توثيقًا لاحتفالات أبناء الطرق الصوفية بمولد شيخ العرب.

المساء كان موعد وصولنا إلى ميدان السيد البدوي؛ أفلت الشمس من سماء طنطا دون أن نودعها، وحل بديلًا لأشعتها ضوء مئات المصابيح متعددة الألوان التي زينت شوارع مدينة شيخ العرب، والتي يفد الناس إليها عن طريق وسيلتي نقل، الأولى استقلال القطار وهؤلاء سيشاهدون مآذن المسجد الأحمدي شاهقة الارتفاع بمجرد خروجهم من الباب الرئيسي لمحطة السكة الحديد؛ أما من دفعهم الزحام لاستقلال السيارات فسيحتاجون لوسيلة نقل أخرى تقلهم من موقف المحافظات إلى رحاب صاحب اللثامين؛ وأكثر المتواجدين في المدينة خلال أيام الاحتفال السبعة يستقلون التاكسي موحد الأجرة - خمسة جنيهات أينما كانت وجهتك.

في ميدان السيد البدوي آثرنا الجلوس على أحد المقاهي لالتقاط الأنفاس والاستمتاع بأكل الحمص والمشبك الدمياطي الذي ابتعناه بمجرد وصولنا إلى الميدان؛ ثم احتساء القهوة قبل الذهاب إلى مكان الاحتفال، ولفت انتباهنا شابين كانا يجلسان على مقربة منا؛ أحدهما شُغلت إحدى يديه بتحريك حبات مسبحة، والأخرى اتخذ منها متكأ لرأسه التي كانت تهتز بالموافقة على كلام صديقه الهائم في ملكوت الحب؛ ولأن حديث الشاب كان ينم عن عمق فلسفي ممزوج بإشارات صوفية، فلم نطق صبرًا على اتخاذ مقاعد المنصتين واستئذناهما في مشاركتهما أطراف الحديث، وبمجرد أن رحبا سألت المحب الهائم: تفسر بإيه حرص مئات الألوف على المجئ للاحتفال بمولد السيد البدوي؟.

الشاب الهائم في ملكوت الحب يدعى «أحمد» وصديقه «على» - حسبما قالا لنا عند مصافحتهما - الأول كان مفوهًا واسع الإطلاع وهو ما بدا من كلماته التي بدأها بقوله: احنا بنحرص على حضور مولد شيخ العرب لعدة أسباب أهمها المكانة الروحية والعلمية للسيد البدوي فهو ثالث أقطاب الصوفية الأربعة، بالإضافة إلى أن هناك عادة ورثناها من مشايخنا، وهى أن المجئ إلى المولد يعتبر رحلة مباركة نلتقي خلالها بإخواننا في الطريق من شتى أنحاء العالم، فمدينة طنطا في هذا التوقيت يجتمع على أرضها الكثير من أبناء الصعيد والدلتا والعرب والأفارقة وكل متصوفة العالم الذين لا تتاح لهم فرصة الاجتماع إلا في هذا الاحتفال؛ قلت متبسمًا: يعني الصوفيين بيحتلوا طنطا في شهر أكتوبر؛ قال: الأمر ليس احتلالًا ولكنه تأكيد لما ذكره المؤلف سعيد أبو العينين في مقدمة كتاب «رحلة أولياء الله في مصر المحروسة»: إنها دولة قائمة بذاتها.. دولة أولياء الله في مصر.. وهى دولة لها زعاماتها الروحية، ولها رعاياها الذين يقدرون بالملايين من الأتباع والمريدين.

قلت: أي دولة تلك التي تتحدث عنها؟؛ قال: دولة الحب.. أردفت متهكمًا: وإزاي أحصل على جنسية الدولة دي؟؛ فلم يعبأ بتهكمي وابتسم قائلًا، ردد معي: السلام على من أحب.. السلام على كل داع للحب.. السلام على من كف لسانه ويده عن تقبيح أفعال المحب؛ أجبته: وعلى المحبين السلام.. صافحني قائلًا: مبروك أنت الآن واحدًا من رعايا دولة الحب.

قلت: ولكن هذه الدولة كما أسميتها أنت قائمة على البدع والخرافات.. فكيف يستقيم أمرها؟؛ قال: بل نحن دولة الحق والأمر ببساطة أن هناك الكثير من المكابرين يرفضون الاعتراف بهذه الحقيقة؟؛ قلت: أي حقيقة تلك التي تتحدث عنها؟؛ أجاب بثقة: الصوفية تحكم مصر.. دُهشت: ماذا؟.. أكمل حديثه غير عابئ بدهشتي: لو أمعنت النظر لوجدت الفقراء في مصر.. متصوفين؛ بل إن صفوة المجتمع من كتاب وإعلاميين وأدباء وسياسيين ورجال أعمال وفنانين ورياضيين.. متصوفين؛ التصوف روح مصر وهويتها والتاريخ يثبت أن هذه البلد كلما تعثرت كانت نهضتها على يد المتصوفة.

اعترضت قائلًا: أنت واهم.. الواقع يؤكد أن غالبية المجتمع المصري يرفض الخرافات والتجاوزات التي تأتون بها في الموالد والاحتفالات؛ قاطعني ممتعضًا: هذه نظرة من يدعون أن التصوف هو فقط الطقوس التي تمارس في الموالد والاحتفالات الدينية.. التصوف علم قائم على الكتاب والسنة الصحيحة.. وسيلته الحب وإحياء الروح والقلب.. ميزانه الأخلاق والمحبة والوسطية.. دعوته نبذ العنف والإرهاب وتكفير الناس.. إطاره العام حرية الاعتقاد فمن شاء أن يعبد الله فليعبده ومن اختار الكفر فهو وشأنه؛ لا وصاية لمخلوق على آخر.. غايته بناء الأمم على أسس العدل والمساواة والحرية.. هذا قليل من كثير علمه لنا مشايخنا حين زرعوا بداخلنا نبتة التصوف الصحيح.

وسأضرب لك مثالًا واحدًا على صحة كلامي: إذا كنا أهل بدع وكفر وضلالة كما يدعي البعض، فلماذا لم تخرج ساحاتنا متطرف واحد على مدى مئات السنين؟.. هل يستطيع أحد إثبات أن ساحات الصوفية أخرجت إرهابي واحد؟.. احتفالاتنا التي هي عادة وليست عبادة يحضر إليها مئات الألوف من البشر.. يأتون سالمين، ويعودون إلى أهلهم سالمين.. فهل من يشجب الدم ويحرمه وفقًا لما نصت عليه كل الديانات السماوية بل كل الأعراف الإنسانية يُعد من أهل الضلالة والكفر.

جميع مشايخ الصوفية يقرون أن الموالد والاحتفالات عادة لا وجود لها في قواعد علم السلوك المعروف عند العامة بـ «التصوف»، وهذا لا يعني أنها محرمة أو بدعة؛ لأ.. الرافضون لها لا يريدون أن يتفهموا أنها تمثل ثقافة وهوية لهذا الشعب المتسامح المتسمك بالمحبة والوسطية؛ وأنها مواسم فرحة وسعادة يشارك فيها الكبير والصغير؛ وأن الجميع ينعمون فيها بالتراحم والمودة.

ودعك من كل هذا وأنظر إلى عشرات الموائد الممتدة لاستقبال الفقراء في الموالد.. لو لم يكن في موالدنا واحتفالاتنا شيء إيجابي سوى سد جوع الفقراء لكفانا هذا، وحتى هذه الميزة نحن حريصون على أن نغلفها في إطار حفظ الكرامة الإنسانية، فجميع الجالسين في الساحات وعلى موائد الطعام سواسية.. لا تستطيع التفرقة بين الغني والفقير؛ كما أن تقديم الطعام غير قاصر على القادرين فقط، فهناك عشرات الفقراء - خاصة السيدات – ينتظرون هذه المناسبات الروحية للمشاركة فيما يمكن أن نسميه التكافل المجتمعي بين أبناء الوطن الواحد.

ومرة أخرى أؤكد أن الموالد ليست طقوس دينية؛ كما أنها لا تدخل في باب العبادات.. هي مجرد عادات يحتفل خلالها الشعب المصري بكل طوائفه بالمناسبات المهمة ويحتفون بكل من دعا للحب والسلام على هذه الأرض؛ والمتصوفة خلال كل الاحتفالات يبعثون برسالة إلى كل من يسارع بتكفير غيره مفادها: لا تكتموا الفرح والسرور واتركوا الناس وفطرتهم النقية.. لا تلوثوها بالتكفير والحض على الكرة.. كونوا دعاة سلام ومحبة؛ وكفاكم إشعالًا لنيران الضغينة والتناحر.. أفسحوا الطريق للحب كي يعمر القلوب.. اجتمعوا تحت رايات الود الإنسان دون تفرقة.

صافحنا الشابين مودعين إياهما وهممنا بالانصراف متوجهين إلى المسجد الأحمدي لنبدأ أولى جولاتنا في رحاب السيد البدوي؛ وعلى بعد خطوات من المقهى الذي كنا نجلس عليه كان انتظارنا "الشيخ سعيد" مرافقنا في هذه الرحلة والذي حضر خصيصًا إلى طنطا قادمًا من إحدى محافظات الصعيد وفقًا لاتفاقنا مع أحد كبار مشايخ الطرق الصوفية بمصر، والذي أهدانا بمجرد مصافحته لنا كتاب «السيد البدوي.. إمام من أئمة أهل السنة» لمؤلفه الراحل الدكتور جودة محمد أبو اليزيد المهدي، العميد الأسبق لكلية القرآن الكريم بطنطا؛ قائلًا: هذا الكتاب سيفيدكم في رحلتكم التوثيقية عن شيخ العرب، والذي يعد الاحتفال بمولده من أهم المناسبات الدينية في العالم الإسلامي من حيث كثرة عدد المشاركين فيه والذين بلغ عددهم هذا العام - وفقًا للإحصائيات الصادرة من الجهات الحكومية - مليوني ومائة ألف شخص.

قبل دخولنا إلى رحاب شيخ العرب كان علينا عبور البوابات الإلكترونية والخضوع للتفتيش من قبل رجال الشرطة لأننا من حاملي الحقائب التي يخشى أن يكون بداخلها مفرقعات من شأنها إفساد أجواء الاحتفال؛ وعقب عبورنا للبوابات الإلكترونية التحمت أجسادنا بالآلاف من البشر وهو ما أجبرنا على السير ببطء شديد في شارع يبلغ عرضه 50 مترًا مقسم إلى حارتين إحداهما للمتجهين إلى المسجد والأخرى للمغادرين.

على يمين كل اتجاه اصطف بائعو الحلوى - المشبك الدمياطي والحمص وغيرهما - وفي المنتصف يسار كل اتجاه افترش باعة الملابس ولعب الأطفال والفسيخ والشحاذون الرصيف؛ انشغل زملائي بالتقاط الصور التوثيقية، وأمسكت أنا بذراع «الشيخ سعيد» وسألته: إيه السر وراء إن الاحتفال بمولد السيد البدوي دايمًا بيكون في شهر أكتوبر على عكس بقية الموالد والمناسبات الدينية التي تلتزمون فيها بالتقويم الهجري؟ ولماذا تمتد أيام الاحتفال بالمولد لسبعة أيام؟.

الشيخ سعيد أكد أن موعد الاحتفال بمولد شيخ العرب يأتي في شهر أكتوبر من كل عام دون الالتزام بالتقويم الهجري يعود إلى أنه في عام 675 هجرية، الموافق 1276 ميلادية؛ وهو العام الذي توفي فيه السيد البدوي حضر إلى طنطا عدد كبير من أتباعه ومريديه لزيارته والتزود من علمه كعادتهم، ولما وصلوا وعلموا أنه مات، مكثوا بالمدينة سبعة أيام، ولكثرة عددهم وضيق المكان نصبوا خيامًا خارج المدينة ونحروا الذبائح، وبعد انتهاء الأيام السبعة سافروا على أن يعودوا في نفس الموعد من العام التالي، ثم صارت عادة سنوية.

لم يثنني الزحام وضجيج الباعة عن الإنصات باهتمام لكلمات الشيخ سعيد، وهو يتحدث عن الأصل التاريخي لإقامة مولد السيد البدوي، مردفًا: وهناك من ذكر رواية أخرى عن السبب في اختيار شهر أكتوبر موعدًا ثابتًا للاحتفال والسر وراء الأيام السبعة، مثل على باشا مبارك الذي كتب في الخطط التوفيقية، أنه سمع من بعض المشايخ أن الأصل في عمل المولد يرجع إلى أن السيد البدوي لما توفي كان كثير من تلامذته متفرقين في البلاد، فلما سمعوا بوفاته حضروا بأتباعهم ومن معهم إلى طنطا ليعزوا فيه خليفته الشيخ عبد العال، وكانت طنطا وقت ذاك قرية صغيرة، فلم تكن تتسع لكل هذه الجموع، فضربوا خيامهم خارجها وأقاموا في تلك الخيام ثلاثة أيام.. فلما أرادوا الرحيل ودعهم الشيخ عبد العال حتى خارج طنطا.. فقالوا له: هذه عادة مستمرة نحضرها كل عام في هذا الموعد إن شاء الله.. فلما كان العام المقبل حضروا للميعاد.. ثم حضروا في الذي بعده؛ واستمرت هذه العادة فنشأ المولد الكبير وكان في الأصل ثلاثة أيام ثم زاد إلى ثمانية كما هو الحال عليه الآن.. سبعة ليال والثامنة تسمى الليلة اليتيمة أو الكريمة.

قطع حديثنا؛ زميلاي: محمد متعب وأحمد سليمان، واللذين طلبا من الشيخ سعيد، تمكينهما من الصعود أعلى سطح إحدى العمائر لأخذ "كادرات" واسعة لمكان الاحتفال، وهو ما حدث بالفعل حين عرج بنا مرافقنا إلى أحد الأبراج السكنية المكون من ثلاثة عشر طابقًا؛ والذي كان على معرفة وثيقة بمالكه، وعلى الفور صعدنا إلى السطح وشرع زميلاي في التقاط الصور والفيديوهات وذكرني السطح بلقب "السطوحي" الذي يطلقه المريدون على السيد البدوي؛ فسألت الشيخ سعيد عن سر هذا اللقب؟ ولماذا أيضًا يسمى السيد البدوي بصاحب اللثامين؟ وهل ما يقوله البعض من إن شيخ العرب كان مجردا مجذوبا، ولم يكن عالمًا، ولذلك لا يصح الاقتداء به؟ وما حقيقة إحيائه للموتى التي يرددها الكثير من أبناء الصوفية؟ وما سر العمامة الحمراء التي اشترط على أتباعه ارتدائها في كل وقت؟ فما كان من مرافقنا إلا أن أخذ في سرد الإجابات على أسئلتنا وهو ما سننقله لكم في الحلقة الثانية من سلسلة حلقاتنا التوثيقية: «في رحاب السيد البدوي».
الجريدة الرسمية