رئيس التحرير
عصام كامل

بالصور.. في رحاب السيد البدوي (3).. «مليونية الحب» تجوب شوارع طنطا.. الصوفيون يحملون الشموع ويرددون الأناشيد.. يبتهلون إلى الله أن يعم الخير والسلام ربوع مصر.. يتدافعون لنيل البركة من ضريح ش

فيتو

طنطا في مثل هذه الأيام من كل عام مدينة أخرى، أكثرية المترجلين في شوارعها والمفترشين لأرصفتها والمتزاحمين في الساحات والسرادقات من غير أهلها، شمس الهدوء خاصمت سماءها، وحل بديل لها سحبًا تمطر ضجيج باعة ثائرين؛ دفاعًا عن حقهم في الترويج لبضائعهم، وجدال مبتاعين لانتقاء أفضل أنواع الحلوى والملابس ولعب الأطفال بثمن بخس، وزغاريد نسوة يعبرن عن فرحتهن بالمجئ إلى المولد، ومحبون لا يملون من سرد قصص العشق الإلهي، ولصوص يجيدون اصطياد فرائسهم من وسط السائرين في الزحام، وذئاب بشرية لا يشغلهم شيئًا سوى التحرش بالصغار والكبار من النسوة، ومتدافعون يتعاركون على أبواب المسجد الأحمدي لزيارة ضريح السيد البدوي، وبين كل هذا ما زلنا نواصل أنا وزميلاي: محمد متعب وأحمد سليمان، استكمال سلسلة حلقاتنا التوثيقية: «في رحاب السيد البدوي»، والتي سردنا لكم في الحلقتين الأولى والثانية منها اعتقاد بعض الدراويش أن "البدوي" أجرى الله على يديه كرامة إحياء الموتى، وتأكيد البعض الآخر أن دولة أولياء الله تحكم مصر، وكشفنا عن سبب تسلق المريدين لأسوار المسجد الأحمدي، وغير ذلك من التفاصيل.


اقرأ أيضًا:
دولة «الدراويش» تحكم مصر

اقرأ أيضًا:
حقيقة إحياء شيخ العرب الموتى





مؤشرات الوقت في محافظة الغربية، تعلن الحادية عشرة صباح الخميس، العشرون من أكتوبر، مدينة طنطا تعج بالزوار الذين قدموا من شتى محافظات مصر والدول العربية والإسلامية؛ للاحتفاء بذكرى مولد السيد أحمد البدوي، ثالث أقطاب الصوفية الأربعة، وكما توقعنا وجدنا التزاحم والتدافع في ساحة المسجد الأحمدي والشوارع المحيطة أشد وطأة، فاليوم هو الليلة الختامية لمولد شيخ العرب، والمتصوفة اعتادوا أن يطوفوا داخل المسجد وفي الساحات المحيطة به عقب صلاة العصر، حاملين الشموع فيما يطلقون عليه «مليونية الحب» التي يبتهلون فيها إلى الله أن يعم الحب والسلام والمؤاخاة على شتى ربوع الأرض، خضعنا من جديد للتفتيش من قبل رجال الشرطة أثناء عبورنا للبوابات الإلكترونية، وتوجهنا على الفور إلى ساحة المسجد الأحمدي للقاء الشيخ سعيد، مرافقنا في رحلتنا حسبما اتفقنا في ليلتنا السابقة.


قطعنا طريقنا من البوابات الإلكترونية المضروبة في ميدان السيد البدوي، وحتى ساحة المسجد الأحمدي في وقت قارب الـ 45 دقيقة، وحين وصلنا إلى وجهتنا لم نجد الأمر مختلفًا عما كان عليه بالأمس سوى أن أعداد النسوة اللاتي يفترشن الأرض زاد عن الرجال وغالبيتهن اصطحبن أطفالهن، محملين بما لذ وطاب من الأطعمة التي تحلقن حولها، وكأنهن يجلسن على موائد الطعام في منازلهن.




المتدافعون على أبواب المسجد الأحمدي، أيضًا ما زالوا يصطفون في طوابيرهم بغية الظفر بزيارة الضريح الذي قيل لنا إنه لا يفرغ من الزوار طوال أيام المولد السبعة، فنحن حتى الآن لم نجرؤ على زيارته رغم أننا حاولنا القيام بمغامرة غير مأمونة العواقب، قررنا خلالها الزج بأجسادنا وسط المصطفىن لنرصد ما يحدث في الداخل؛ ولكن الأمر كان صعبًا للدرجة التي كدت أفقد معها الوعي من كثرة التدافع وندرة الأوكسجين الذي شعرت أن السماء تأبى أن تهديه إلى رئتي؛ فآثرنا الابتعاد عن الساحة وقررنا الترجل وصولًا للساحات الملاصقة للمسجد الأحمدي، ومنها إلى الشوارع الجانبية؛ انتظارًا لوصول مرافقنا الذي انقطعت أخباره فجأة.



في طريقنا للخروج من ساحة المسجد الأحمدي، دار بيني وبين زميلي محمد متعب، حوار من نوع خاص كنت أقول له فيه: «عايزين نوزع مجهودنا عشان نقدر نواصل عملنا لأن اليوم ممتد ولن ينتهي إلا ببزوغ فجر الجمعة، وهو كان مشغولًا بشيء آخر أفصح لي عنه بقوله: بالعكس أنا عايز استغل الوقت ده وأدور على دراويش صادقين ومحبين، الناس دي بستمتع وأنا بصورهم والبورتريهات بتاعتهم بتبقى عظيمة، وبحكم رحلاتنا واختلاطنا مع الوافدين إلى الموالد والاحتفالات الروحية كنا نعرف هذا النوع الذي يبحث عنه زميلي، فهم دومًا الجالسون بمنأي عن الجميع، الصامتون مهما علا الضجيج والصخب، السائرون بمفردهم وسط الملايين وكأنهم لا يرون أو يسمعون من حولهم، هؤلاء ليسوا مجاذيب أو حتى دراويش بل هم علماء يرقبون الله في كل أفعالهم ويحفظون القرآن الكريم كلمات ومعنى، يمتلكون قلبك بمجرد أن تتحدث معهم.


بالقرب من باب رقم «3» المضروب على سور ساحة المسجد الأحمدي، وجدنا ضالتنا، مسن صامت أبيض الثياب والوجه الذي يعلوه وقار وهيبة تأسر القلوب وتخيفها في نفس الوقت، اقتربنا منه واستئذناه في التقاط صور له فلم يعبأ بالرد علينا، فقلت لزميلاي: «السكوت علامة الرضا»، وفور أن فرغا من عملهما اقتربت منه وبصعوبة بالغة دار بيننا هذا الحديث الذي بدأه بقوله: أوصيك بحفظ ما كتبه الحسن البصري إلى عمر بن العزيز، حين أراد أن يصف له الدنيا: 

إنما الدنيا حلم والآخرة يقظة والموت متوسط ونحن في أضغاث أحلام.. من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر ومن نظر في العواقب نجا ومن أطاع هواه ضل ومن حلم غنم، ومن خاف سلم ومن اعتبر أبصر ومن أبصر فهم ومن فهم علم ومن علم عمل.. فإذا زللت فأرجع وإذا ندمت فأقلع وإذا جهلت فاسأل وإذا غضبت فأمسك.. وإذا وقعت عينك على صاحب ذنب فلا يقع في نفسك العزة وأنك خير منه.. هو فُتن وأنت برحمة الله نجوت، فادع الله له بالهداية ولنفسك بالثبات.


سألته والزحام ممتد حولنا: هل أنت واحد من أولياء الله الصالحين؟، فدمعت عيناه وأجاب: ليس لي في رتبة الولاية وأنا أقل من ذلك؛ أردفت: إذا أنت واحد من الدراويش؛ قال: وحتى هذه ليس لي فيها موضع قدم؛ الدرويش هو من أدار وجهه عن الدنيا وها أنا غارق في ملذاتها؛ قلت: إذًا أنت مريد؛ هز رأسه: وهذه أيضًا لم أبلغها؛ وصمت قليلًا ثم طلب مني أن أردد لفظ الجلالة، فاستجبت مرددًا: الله؛ فقال: أرايت؛ قلت: لم أفهم ماذا تقصد؟؛ قال: يا ولدي المريد من إذا قيل له الله.. ذاب؛ وها أنا أمامك كما أنا؛ قلت: إذًا من أنت؟؛ قال: مشتاق يهفو أن يسكن قلبه في رفقة المحبوب.




صمت الشيخ كثيرًا بعد هذه الكلمات، وأوشكت أن أستئذنه في الانصراف لأتركه وشأنه الذي يهيم فيه، ولكني نظرت فجأة إلى الباب الفرعي للمسجد الأحمدي والذي كنا نجلس في مواجهته فرأيت ذلك الدرويش الذي قص على مسامعنا حكاية إحياء السيد البدوي للموتى، وحديث الشيخ سعيد - مرافقنا الذي لم يحضر بعد- أن شيخ العرب كان «عيسوي المقام»؛ فسألت الشيخ: ليه بتطلقوا على السيد البدوي صاحب المقام العيسوي؟؛ فأجابني: مولانا السيد كان بيحب يسكن فوق السطح ومن هنا اكتسب لقب «السطوحي»، وعاش حياته دون أن يستظل تحت سقف سواء في الشتاء أو الصيف، وكان يفترش الأرض في نومه، ولم ينعم من ملذات الدنيا إلا بقدر ظل شجرة وستر عورة، وكان يرفض تناول الطعام بمفرده فإذا لم يجد من يشاركه الأكل من الناس واصل صيامه، وهذه كانت أبرز الصفات لسيدنا المسيح عليه السلام، ولذلك سمى السيد البدوي «عيسوي المقام».. كما أن شيخ العرب رفض الزواج لأنه كان يرى الأولاد «مجبنة.. مبخلة» وخشى أن يشغلوه عن زهده وعبادته وعلمه.


تجاوزت الساعة الآن الثانية والنصف ظهر الخميس، العشرون من أكتوبر، وكان لزامًا علينا استئذان هذا الشيخ في الانصراف لدخول المسجد الأحمدي وتوثيق الزفة ومليونية الحب التي تخرج من ضريح شيخ العرب، صافحنا الشيخ ووعدناه بلقاء آخر عقب انتهائنا من مهمتنا، فودعنا بحفاوة قائلًا: «اللقا نصيب»، وانطلقنا محاولين دخول الضريح من الباب الرئيسي للمسجد فكان الأمر مستحيلًا بسبب تدافع مئات الألوف الذين ضاقت بهم أرض طنطا ذرعًا، وهنا تذكرنا أن التدافع على الباب الفرعي أقل حدة فقررنا الذهاب إلى هناك قائلين: سندخل مهما كلفنا الأمر.




ذهبنا بالفعل إلى الباب الفرعي للمسجد الأحمدي، وكما توقعنا كانت أعداد الراغبين في الدخول لزيارة الضريح أقل من أمواج المتدافعين في الناحية الأخرى، وبمجرد أن وطأنا بأقدامنا داخل المسجد نزع منا حق الاختيار؛ فالمتدافعون صوب ضريح السيد البدوي كانوا يشبهون تدفق أمواج السيل التي تأخذ كل ما تجده في طريقها.




دفعتنا أمواج البشر إلى داخل ضريح السيد البدوي، الغرفة المسجى فيها شيخ العرب ضيقة وأعداد المتوافدين عليها لا تحصى من فرط كثرتهم، ونحن نطوف دون إرادة منا حول المقام المزين بالرايات الخضراء والحمراء والمضاء بالبللور الأبيض المائل إلى اللون الأخضر، ونسمع أدعية وابتهالات وأناشيد وزغاريد ورسائل.. الجميع يتحدث ويصرخ وينشد ويرقص غير عابئ بغيره وكأنه يقف في الضريح وحيدًا.




النساء وبعض الرجال اضطروا لحمل الأطفال فوق كواهلهم خوفًا عليهم من الدهس تحت الأقدام المتسارعة، والتي بدا أنه مهما حدث فلن تتوقف عن الطواف حول الضريح، ونحن مسلوبو الإرادة تتدافعنا الأجساد وتنالنا اللكمات غير المقصودة من الأيدي الراغبة في التمسح بمقصورة الضريح، وباتت الرغبة في مغادرة المكان ملحة؛ ولكنها كانت أمنية صعبة المنال، فكما دخلنا بغير إرادة سنخرج أيضًا بغير إرادة.




ووسط كل هذا كانت تترامى إلى مسامعنا تكبيرات إمام المسجد الأحمدي الذي لا نعرف كيف استطاع إقامة صلاة العصر وسط هذه الأمواج البشرية الهادرة، وما إن صدحت ميكرفونات المسجد بقول الإمام: السلام عليكم ورحمة الله.. معلنًا إتمام الصلاة، حتى تعالت الزغاريد وقرع الدفوف، وسمعنا من يقول: «الزفة بدأت»، وقبل أن نسأل عن طبيعة الأمر دخل إلى الضريح 4 أشخاص يحملون الشموع المزروعة في إناء مليء بالحناء، ومن خلفهم مئات بعضهم يقرع الدفوف وغيرهم ينشد.




بدأ قرع الدفوف يعلو، والجميع يردد إحدى القصائد التي يقول مطلعها:

شربي صفا بالبدوي المقتفى.. فحل الرجال به شربت دنانا

ضربت قباب في رحاب عطائه.. بحرًا خضمًا قد سقى عطشانا

من زاره يحظى بنيل مراده.. دنيا وأخرى شاهدا برهانا




انتهى المنشدون من ترديد أبيات القصيدة، وأسند أحد الشيوخ يده فوق مقصورة الضريح وأخذ يبتهل إلى الله بأدعية كثيرة عبر خلالها عن محبة الوافدين لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمنى أن يعم الخير والرخاء على ربوع مصر، وأن يأمن الخائفون ويُطعم الجائعون ويكسى العرايا في شتى أنحاء الأرض، وأن يعم الأمن والسلام.. والجميع من خلفه يردد: آمين.




وعقب الطواف حول الضريح والانتهاء من إنشاد القصائد وترديد الأدعية، خرج حاملو الشموع وقارعو الدفوف ونحن معهم لاستكمال طوافهم في ساحة المسجد الأحمدي والشوارع المحيطة به، فيما يطلقون عليه «مليونية الحب»، وفي هذه اللحظات كان الإنهاك بلغ منا منتهاه ولم يكن بوسعنا الطواف معهم؛ لذلك وبمجرد أن خرجنا إلى ساحة المسجد الأحمدي سارعنا إلى الجلوس على إحدى المقاهي المجاورة لالتقاط الأنفاس، قبل أن نبدأ رصد طقوس الاحتفال بالليلة الختامية لمولد السيد البدوي، والتي سننقلها لكم في حلقتنا الرابعة من سلسلة حلقاتنا التوثيقية: «في رحاب السيد البدوي».
إنهاء الدردش
الجريدة الرسمية